رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

اغنية يا سليم الزوق ومتعة الأبصار” كأحد أيقونات الحقيبة في مجدها الشعري والطربي.

سوح في قليل من روائع اغاني الحقيبة السودانية الارث الفني التاريخي العظيم واغنية #

يا سليم الزوق ومتعة الأبصار” كأحد أيقونات الحقيبة في مجدها الشعري والطربي.
✍🏻المستشار القانوني /مهيد شبارقة
#أغاني الحقيبة عموما هي:
خلفية تاريخية وسياق ثقافي لن يندثر /فما هي أغاني الحقيبة و/لماذا سميت بالحقيبة؟
فأغاني الحقيبة أو أغاني حقيبة الفن” هي المرحلة الأهم والأكثر أصالة في تطور الغناء السوداني، حيث نشأت بين عامي 1918 و1955، أي خلال الفترة السبقت الاستقلال وأعقبت الثورة المهدية،وقد جاءت هذه التسمية نسبةً إلى /حقيبة الإذاعة” التي كانت تحتوي على أسطوانات تُسجّل فيها تلك الأغاني الأولى التي أذيعت عبر الإذاعة السودانية،فهذه الأغاني شكّلت الجذر الأساسي للغناء السوداني الحديث، وامتازت بالاعتماد على الشعر العربي الفصيح أو المعرّب،مع إدخال إيقاعات سودانية محلية متعددة،كالإيقاع الخماسي الموروث من الثقافات النيلية،والطبول الإفريقية،والطار أو الرق” كأدوات أساسية.

#البيئة الاجتماعية والثقافية:
حيث كانت الخرطوم خلال هذه الفترة مركزًا حضريًا يتشكل من تيارات متعددة كأثر إسلامي قوي، وتواصل مع مصر والشام، وامتداد إفريقي عميق، ففي هذا الوسط الغني بالتنوع الثقافي،نشأ شعراء الحقيبة كعمر البنا، /خليل فرح، /عتيق و/العبادي واخرون كثر، جمعوا في نتاجهم بين اللغة الشعرية الرفيعة والتعبير الشعبي المحبّب، في مزجٍ نادر سيما الغناء كان يتم عادة في /الأنادي و/السمَر الليلي بين المثقفين أو الطبقات الوسطى،حيث يُنشد المغني مصحوبًا بدفوف أو عود، أحيانًا دون آلات، مما زاد من انسيابية اللحن والتطريب فابت
هذه الأغاني الا أن تختزل الحنين، والجمال، والفكر، في كلمات بسيطة وملحّنة ببراعة مدهشة جعلتها،لا تزال تتردّد حتى اليوم في الإذاعات والمناسبات، وكأنها خُلقت حديثا وتُعدّ أغنية #يا سليم الزوق ومتعة الأبصار” واحدة من درر أغاني الحقيبة السودانية التي تجسّد تمازج الفن بالشعر، وتبرِز ملامح الرقي الحضاري الذي شهدته الخرطوم في النصف الأول من القرن العشرين وتنتمي هذه الأغنية لنمط غنائي ظهر في أواخر العشرينات والثلاثينات،حين تفتّق الإبداع الشعري في ثوب الغناء، فانطلقت الكلمات محمّلة بالخيال، والتشبيه، والغزل الرفيع.

#مناسبة الأغنية وظروف كتابتها:
رُويت عدة روايات عن خلفية هذه الأغنية، لكن أكثرها تداولًا أن شاعرنا/عمر البنا كتبها متغزلاً في إحدى جميلات ام درمان والتي رآها في مناسبة اجتماعية راقية،فتجلّت له صورتها كأنها /متعة الأبصار ،وهي عبارة تحمل بُعدًا فلسفيًا وبلاغيًا عجيبا، في وصف الجمال المثالي.
حيث كتب عمر البنا هذه القصيدة في لحظة وجدٍ صوفي،متأملًا الجمال المحض،لا بوصفه حسًّا فقط،بل باعتباره حالة روحية تهزّ الكيان،فالأغنية لم تُكتب لغرض مباشر كزواج أو لقاء،بل كمشهد فني وجداني خالص، جل غايته تصوير فتنة الجمال الساحر.

#شاعر الاغنية: عمر البنا هو أحد أبرز شعراء الحقيبة،امتاز بأسلوبٍ يراوح بين الرقة في الغزل، والعمق في المعاني، والثراء في اللغة فكان مثقفًا واسع الاطلاع على الشعر العربي القديم،واستفاد من الأوزان والقوافي الكلاسيكية كونه نشأ في بيئة وسط البطانة بالجزيرة منذ صغره ثم انتقل لام درمان، لكنه لم يفتقر إلى الأصالة المحلية،بل مزج بين الأصالة والمعاصرة.

#فالى شرح بعض أبيات الاغنية وتحليلها:
وهنا نورد الأبيات مع شرح معانيها، لنُبرز جوانب القوة البلاغية والرمزية فيها حين يقول:
يا سليم الزوق ومتعة
الأبصار
يا مليح الشكل يا فتان
الأنظار
نجد هنا يفتتح شاعرنا أبياته بنداءٍ تشريفي، يخاطب فيه المحبوبة بـسليم الذوق أي المهذبة، صاحب التكوين الجمالي المتكامل،والذي يشكّل متعةً خالصةً للناظرين…!!ونجد الوصف هنا يتجاوز الحس الظاهري إلى الإعجاب بسلوك وأناقة وتناسق الشخصية حين يقول.
وجهك الصافي وعيونك
سحروني
وخصورك لما تتني مالو
مقدار
وهنا يصف شاعرنا وجه المحبوبة بالصّفاء، إشارة للنقاء الروحي والجمالي، وتأتي العيون هنا بوصفها “سحرًا”، وهو تعبير عن تأثيرها الفتّاك على القلوب،ثم ينتقل لوصف “الخصر” وهو من الكنايات المفضلة في الغزل العربي القديم،إذ يشار به للرشاقة والدلال، ويقول إن انحناء خصرها لا يُقدّر بثمن،في تشبيه ضمني بالجواهر النفيسة ثم يذهب ويمضي في ابداعه قائلا:

نظرتك الفيها فتنتني
تبسمك الرائق رجفني
نار
ونجد شاعرنا ينقل هنا من حالة الانفعال العاطفي، فيصف النظرة بأنها فِتنة، والتبسم بأنه /رجفة نار، وحتما هما صورتان حسيّتان قويتان:
فالفتنة كالموج، والابتسامة كالحريق، تعبيرًا عن الذوبان العاطفي في حضور الجمال ثم يذهب فيقول:
قولوا ليه ما يصدني
ولا يجفاني
أصلو في هواهو قلبي
اختار
وهنا ينتقل شاعرنا من الوصف إلى الرجاء، ومن الغزل إلى المناجاة، فهو يناشد من حول الحبيبة أن (#يبلغوه ألا يعامله بجفاء، فقد أسلم قلبه بكامل إرادته لهذا الهوى) وهذه الالتفاتة العاطفية تضيف بُعدًا إنسانيًا وتعمّق درامية المشهد.
#اللغة والأسلوب:
اعتمدت الأغنية على لغة فصيحة مطعّمة ببعض التراكيب السودانية المحلية التي لاتخلّ بفصاحتها وتتميز بموسيقية عالية من خلال الوزن والقافية، وتغلب عليها صور بلاغية قوية، #أبرزها:
=النداء التزييني: يا سليم الزوق…
=الطباق والمقابلة: الصافي × رجفني نار
=التشبيه الضمني:
خصورك لما تتني مالو مقدار
#والسؤال الذي يطرح نفسه لمَا بقيت هذه الاغنية خالدة في ذاكرة وجدان الشعب؟
ولعل خلود أغنية “يا سليم الزوق” يعود إلى توافر عناصر الإبداع الفني فيها:
فشاعرٌ يمتلك ناصية اللغة، ومغنٍ موهوب أوصلها بصوتٍ رخيم و(غالبًا ما تُنسب إلى أداء /كرومة أو /سرور)، اضافة للحنٍ مشبعٍ بالإيقاع الخماسي السوداني الفريد لذا هي ليست مجرد أغنية، بل وثيقة شعرية موسيقية تؤرخ لزمن الذوق الرفيع واللغة النقية،وتُذكّر الأجيال بأن الفن يمكن أن يسمو بالنفس، كما يسمو بالعشق.
#ولو دلفنا للتحليل الموسيقي لأغنية “يا سليم الزوق”
#نجد ان الخلفية التاريخية لأغاني الحقيبة كتحليلاً موسيقيًا لأغنية /يا سليم الزوق ومتعة الأبصار” فهي من حيث اللحن والأداء، ضمن السياق العام لذلك العصر الفني
#ومن حيث اللحن والايقاع:
فقد أُلحِنت هذه الأغنية على أحد الإيقاعات الخماسية التقليدية (غالبًا إيقاع “الدليب” أو التم تم)، والذي يُميّز الموسيقى السودانية عن بقية الموسيقات العربية فالإيقاع الخماسي يعطي نوعًا من التمايل والإيقاع الهادئ المتدفق، الذي يتناسب مع النصوص الشعرية الغزلية الراقية.
#ففي أداء الأغنية، يُلاحظ:
البداية النغمية البطيئة: لتُهيّئ المستمع للتطؤيب وتُبرز جمال الكلمات سيما تكرار اللازمة الغنائية حتما هي لإبراز المعنى العاطفي وترسيخه.
#صعود النغمة عند التشويق: ففي البيت “تبسمك الرائق رجّفني نار” نلاحظ هنا صعودًا لحنيًا متوترًا يتناسب مع التصوير العاطفي.
#اما الأداء الصوتي:
فغالبًا ما تُنسب هذه الأغنية إلى أداء /عبد الكريم كرومة أو /عبد الله محمد سرور، وهما الاثنان من رواد الغناء في الحقيبة. ويتميز أداؤهما بما يلي:
بالتطريب المقامي: حيث يُغنيان على مقام الراست أو البياتي بتصرفات مقامية مرنة.
#وبالوقوف عند القافية:
نجدهما يطيلان الغنة في نهاية البيت، خاصة في كلمات مثل “أنظار” و”مقدار”، لتمنح المستمع فرصة للتأمل.
#واما من ناحية الآلات المصاحبة
لم تكن هناك فرقة موسيقية كبيرة، بل غالبًا:
يكون العود أو الطنبور: لإعطاء أساس لحني.
كالدفوف/الطار: لتحديد الإيقاع وأحيانًا أصوات الصفقة” (التصفيق المتناغم) من الكورال.
#الخلاصة لهذا الابداع الذي لن يتكرر:
أن اغنية “يا سليم الزوق” ليست مجرد نص شعري مُغنّى، بل هي مثال حيّ على تلاقي اللغة والوجدان والهوية الثقافية السودانية. لقد مثّلت، كما أغاني الحقيبة عمومًا، مرحلة تأسيسية في الغناء السوداني، نحتت مدرسةً فريدة في العالم العربي، تتجاوز البُعد الترفيهي إلى كونها وثيقة حضارية فنية.

زر الذهاب إلى الأعلى