رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

هذه الحرب التي اعادتني إلى ذاتي : الحلقة الثانية .

مضى عيد الفطر الأول في منطقة الجزيرة بصورة شبه اعتيادية على الرغم من نشوب وانتشار جخيم الحرب في كافة أرجاء العاصمة القومية المثلثة التي بدأ ساكونها في مسابقة الزمن هربا من النيران التي طفقت تلتهم أطرافهم القريبة والقذائف الطائشة والدانات الكفيفة التي تتساقط وتحطم هامات وجدران المساكن وتحصد سكانها الأبرياء .
ومن هنا تحركت الجزيرة بحسها الوطني تستشعر مسئؤليتها الجسيمة حيال هؤلاء القوم الكرماء فبسطت لهم اكف الترحاب و عيد الاضحى يدق على ابواب الحياة التي بدأت فيها الاستعدادات لاستقبال النازحين سكنا في القلوب قبل ارتياد الدروب و مداخل البيوت …فلا فرق في احتضان الغريب عن القريب والكل من أهل الجزيرة يحمد المولى الكريم أنهم باتوا الملاذ الآمن الذي يكتنف الاحباب القادمين من كل فج ملتهب طلبا للنجاة و الامل يحدو كل أسرة نازحة بأن تنقضي هذه الظروف وتنجلي سحابة الكآبة التي وان كان أهل الجزيرة يطيلون النظر إليها بعيون القلق و يرفعون الأكف بأن تنجلي بعيدا عن سماء الوطن كله ولكنهم لم يكن في حساباتهم أن يندلق يوما سيل تلك المأساة الجارف ليغرق أرضهم دما ودموعا .
بيد أن الاخبار التي تساقطت على مسامعنا كالجمر قد اججت فينا قلقا وتوترا بأن خطوات الرياح تسير في غير ما تشتهي سفن النفوس الآمنة.. وقد أخبرنا جيراننا في منطقة سوبا غرب بأن عصابات مسلحة بدأت تجتاح المنطقة في غلس الليل وتنهب ممتلكات السكان بمختلف أثمانها و تفاوت أهميتها وان منزلي شخصيا قد تعرض للشفشفة التي طالت سيارتي و اثاث المنزل وبعض الأجهزة الكهربائية .
ولعل اثر تلك الأخبار قد ولد فينا زوجتي وانا شعورا بالاسى لم يخفف منه ألا الإحساس بأن ما أصابنا هو مصاب عام وجرح في خاصرة الوطن أكثر منه وجعا خاصا ..فالإنسان طالما سلمت الارواح فإن المتاع و المقتنيات هو من يعيد توفيرها متى ما تهيا الجو العام لعودة الحياة إلى طبيعتها و كنا نعيد دوما الدعوات والتضرع إلى الله أن يكف عن العاصمة الأذى و يحمي الجزيرة وبقية تراب البلاد من ما أصابه من بلل قاني اللون و منفر الرائحة .
لم يكن بالطبع الركون إلى الحياة الرتيبة في الجزيرة في ظل ذلك الأمن المشوب بالتوتر سلبيا في عمومايته او هو خال من الإيجابيات على المستوى الشخصي بالنسبة لي وقد اخذتني امواج الغربة بعيدا عن الوطن عموما وعن الجزيرة وقريتي التي ولدت فيها حاج السيد أو تلك التي ترعرعت بين ظهرانينها مناقزا وهو أمر كان يشق معه أن أعود إلى ذاتي القديمة التي تركتها ظلا مرسوما على حوائط تلك الانحاء و حملت ذكرياتها حية في شغاف قلبي ..ولكن انى لي وانا أعود متوكئا على عصا الوهن أن اجد ذلك الظل في عيون من تركتهم في العاشرة من أعمارهم صبية وفتيات فأصبحوا خلال غيابي الذي امتد لأربعة عقود ونيف أما اباءا على مشارف الكهولة او أجدادا وجدات لجيل هو الآخر يخطو نحو مرحلة الأبوة .
فهل يحق لي أن أقول رب ضارة نافعة و الحرب تدفعني إلى ذلك الحضن القديم كالطفل التائه الذي اعادوه إلى والديه فرحا وحزينا ومهلوعا في ذات الوقت !
بالتأكيد ذلك المثل لايجوز إطلاقه جزافا في مثل هذه الظروف التي وان جعلتني استعيد ذلك الظل واجعله متحركا في دروب الحياة عند ملمات الافراح او لحظات الممات عند المقابر ودموع الاتراح ..بل وبات الكبار يستأنفون معي بقية الحكايا التي ظلت حبيسة أطراف الألسن و صداها يرن في وجداني شعرا ونثرا ..بينما من تركتهم صبية بعضهم يقول لي العود احمد والبعض يناديني بالعود محمد ..ولكن لاباس فالعافية درجات حتى في تذكر الاسماء .
لكنها في عمومها هي الأقدار التي قد تجعل من الصيب النازل من السماء أداة للدمار ولكنه لابلبث حتى يكسو الأرض ثوبا من الإخضرار ويصبح سببا لإعمار بنية الإنسان بخيرات الأرض قبل رفعة البنيان لياوي كل ذي كبد رطبة ..فالحروب إلى زوال و تستمر الحياة برغم مضاضة الالم .

يتبع ..

زر الذهاب إلى الأعلى