رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

المنوعات

إبراهيم الحسن يقيم رحمتات صديق احمد في قبايل العيد وليالي السنسنة الحمراء

يا قمرة …اقلبي السنسنة الحمراء شوفي أبوي أنا الراجاهو كل صباح

 

 

الرثاء كما ينبغي لمثل صديق

صديق احمد .. وكنت أتمنى ان أسأل الله يمد أيامك
لولا لكل أجل كتاب !!

إبراهيم احمد الحسن

(1)
صديق وانت في جنات خُلد مع الصديقين بإذنه تعالى ، أجدني اردد وأقول : (وكنت بمد أيامي لولا لكل اجل كتاب/ ومهما يقولوا الناس جن ومصاب / أنا بعشقك / أنا بعشقك من غير حساب ) وحين يتدفق الجمال بين جنبات القصيد ويحملك اللحن البديع الي آفاق (فوق عقول الناس وفوق دنيا الخيال حبة ) ونمضي مع النغم المستل من حنجرة ذهبية وكلمات ليس لها من قرار سوى ان من اتى بها جاء من واد عبقر بالهامه المحلق فوق طباق السموات ..تنتشي ثم تهوى من شاهق الإلهام الي سحيق النشوة في ذياك الواد تفيق هنيهة ثم تجد نفسك ثانية في اعلى ذراري النظم البديع مع عبدالله محمد خير . ونحن نعلو ونهبط ، نرتفع وننخفض وندور مع الايام نغيب ونفيق ثم نصحو لنجد صديق
حمل معه كل جميل ورحل .

(2)
صنو الروح ل صديق احمد كان عبدالله محمد خير عليهما رحمة من الله تعالى وبركاته ،فكما الثاني ينسج الكلمات الاتية من اعماق واد عبقر يرتل الاول بديع الحان تخرج من حنجرة خلق بديع السموات حبالها الصوتية وأوتارها من مكامن الصوت في مزمار داؤود . تخرج من اعماق إلهام عبدالله محمد خير الكلمات مغلفة بمقامات من مسافات الموسيقى واللحون ويتلقفها صديق احمد جاهزة يوقع اوتار آلة عزفه الخمس ويشحذ حبال صوته لتتحكر الكلمات في قوالب اللحن والحبال الصوتية وتتجاوز مسرعة مقامات الموسيقى وسلم تتابع النغمات صعوداً وهبوطاً ( حاول مره زورنا عشان تشرفنـا / وبي معنى الجمال الفطري عرفنا / لفينا المدائن والقـرى وطفنـا / زيـك لا بنلاقـي ولا بيصادفنـا )
ثم إلى متى ؟ الي حيث يحملك صديق وعبدالله في هودج الشوق المُحرِّق لتحلق فوق سماء رؤية تحلم باللقاء يسفر عن صباح عمرٍ جميل ومشرق ولا محالة آتٍ آت
( لا متيـن يـا نومـي فـيـك رؤيــاي تـصـدق / ولا متيـن يـا شـوق موالـي قليبـي تحـرق / تـانـي جــود باللقـيـا يــا زمـنـي المـفـرق / وتاني يا اجمل صباح فـي عمـري أشـرق ) !! نكتب وقد جاء الزمن
المفَرِق ، وفجعنا بخبر رحيل صديق أحمد.

(3)
وينطلق صديق احمد قافزاً بالحانه فوق ( دو-ري – مي – فا – صول – لا- سي) ليصنع له مقام جديد يمتع به معجبيه الكثر ، ويتبدى هذا عندما يتأبط صديق كلمات عبدالله حروف اغنية دروب الريد ( خلوني اللسافر أبوي لو كان فـي إجـازة العيـد / أمشي أزور حبيبي الغالي داير أوفي حق الريـد / عشان يا يابا من يوم روح ما جاني منو بريـد / وما قال لي وين يا زولي كيف عامل براك وحيد ) في ذات النظم البديع يحمل عبدالله محمد خير عمق المعاني ويجعل ترديد كلمة يا حبوبة كالنشيد ان لم يك النشيد الوطني للاحفاد ذاااتهم ( يا حبوبة عندو نشيد ) ، كيف لا يكون الشوق للأب نشيد وقد كانت كل مفردة من القصيدة نشيد ( وما قال لي وين يا زولي كيف عامل براك وحيد ؟) !! وتقترب إجازة العيد .. وصديق أحمد عند مليك مقتدر في جنات الفردوس بإذنه الواحد الأحد .
ويتمدد النشيد عند عبدالله واصلاً الود مع صديق احمد يمسكان معاً حبل الصبر ويطلقا العنان على غارب الأخيلة يدندن لحنه في الأعماق ، يترنم ( أمسك حبل الصبر / خلي قلبك لا يبقى نئ ) ، يقول عبدالله مخاطباً من حزم أمتعته ( و دق مغادرة ) ثم أتسرب في ليل السفر و مع النسمات الاولى من الصباح يتذوق صديق احمد طعم الفراق بحنجرة ذهبية ، طعم لا يحسه الا من جربه ، و من جربه لن تجديه مناداة في وادي صمت هذا الهزيع ( ما بشيشك بينا اترفق ) فقد انطلق النغم يدندن ويتسلق الابداع في حبال صوتية من اوتار مزمار داوؤد موسومة . وذقنا نحن طعم الفراق وصديق يغادر دنيانا الفانية في العشرة الأواخر من رمضان وأنا لم ازل ابحث في حروف اللغة وحروف الموسيقى عن الحروف التي تعبر عن حزني فلم اجدها لا في حروف اللغة ولا في حروف الموسيقى ، إلا ان أقول ( مشاويرك عديلة / عديلة عليك !! )

( 4 )
ثراء الدفق اللحني لصديق ينساب رفقة كلمات عبدالله محمد خير في كل المناسبات والأعياد ، وآه من الأعياد حين تصحى في الأعماق المرهفة أنات الشوق العنيد ، ولنتوقف نتأمل العيد في الغربة والزول البعيد فيها يتأرجح بين الحياة والموت وهو يستقبل عيد جاء ويودع ذكريات عيد مضى :(لكني من أول حرف اجد الأنامل ترتجف / واتذكر العيد المضى/ أعياد تجي وأعياد تفوت/ والفرحة تصحب كل عيد تملا البيوت/وأنا كل ما استقبلت عيد أحيا وأموت)، هذا عن فراق العيد فكيف يكون حال من فقد العيد وضاعت منه البيوت ذاتها . ؟
وهل هناك ثراء اعمق فكرة وابلغ تعبير من ذياك الذي يصل بك الي منتهاه بان فراقكم للبلد ولا كان صاح !! (جاهو العيد كمان زاد القليب حسرة / سادة العبرة حلقو ونفسو منكسرة / هو لا لمَّ القروش لا حصل المسرة / بلد ما فيها زول مات من عدم كسرة / فراقكم ليها يا أحباب ولا كان صاح )!!
وهل هناك ثراء يلخص كل ذياك الرهف ، ثم يحزم تلك المشاعر الجياشة بفيض من عزة النفس وقوة شكيمة لا يبليها الوهن او يفت من عضدها كونها رقيقة ومرهفة ، ووقوفاً هناك في البعيد ينتظر انقشاع الاحزان وعودة الفرح مع قدوم عيد سعيد لا محالة آت ( عمري يا عيد ما بتجرسني الشدايد /وما بتهز إيماني أصناف المكائد/ مافي عيداً ما بندورو يجينا عائد / بس بدل أحزانا يبقى فرحنا زائد ) ،
وها قد جاء العيد وتجرسنا فيه شدائد استقباله دون صديق . وهل اقول كما غنى صديق للوطن (فراقكم ليها يا أحباب ولا كان صاح )!!)

( 5)
الشاعر عبد الله محمد خير شاعر القصيدة المشهورة (بتسألي فيٰ ايش فيك ؟ ليش ياخ بتطالع ) ، ويجئ الرد ( بطالع في قمر فتك الخمار طالع / بطالع في القوام الأمرد الفارع / بطالع ؟ وايش في بين الشاري والبايع؟ / يستر الله ؟ يفتح الله يا رائع ) الي ان يقول ( بطالع في رويحتي تلوي وتصارع / واطالع في القيامة القايمة في الشارع / واطالع في النفس لا يبقى مو طالع) ، وغنى صديق القصيدة وأحالها الي رمية ومدخل لأجمل اغانيه بل رأينا نحن النفس الذي طلع وابى ان بنزل ، يخرج الينا انغام شجية من صنع صديق . له الرحمة والمغفرة .

( 6)
إنسانية صديق احمد وعبدالله محمد خير منطلقها شواهد عديدة ، أنظر اليها وستجدها في طيبة القرية ، قرية صديق وعبدالله (أرقي ) حيث كانت النفوس على سجيتها سمحة ، متسامحة ، ومتطايبة ، في هذه الاجواء كتب عبدالله محمد خير ( يا حلاة العُشرة وكتين تبقي صـح صـح/ ويا حلاة الريدة وكتيـن تصفـى تفـرح/ يا حلاة ليلاً معـاك مـا دُرنـا يصبـح/ ويا حلاة صبحاً معاك تكون إنت المصبح/ في الربيع قالو الزهـور تنضـر تفتّـح/ يا ربيع في حضنو كـم لفانـي وارتـح ) وغناها ، غناها صديق احمد كما يجب ان يكون الغناء صباح وربيع وزهور تتفتح وحبيب يقول صباح الخير ، قبل ان يعقبها بنغم فريد يأتي به من جمال الفراديس ( الذوق والأدب خلى الخلوق ومشالو/ أما جمالو الله من الفراديس شالو/ يا ناس ذنبي أيه أنا قلبي لو شاشالو/ بس قولو لو مبروك العرف نشالو ) وبدوري اسألكم ما ذنبي ان تتحمل دواخلي هذا الترف الوجداني العجيب الذي تخلفه السياحة في نظم عبدالله والحان صديق ؟ وتستقبل أرقى قريته الطيبة جثمانه الطاهر وتودعه احشائها ثم فوق براق دعوات محبيه ربنا بإذنه جل وعلا ( إلى الفراديس شالو ) .

(7)
عالي الهمة وسامي المقام صديق احمد التقط نَظْم عبدالله محمد خير يصف رحلة لعروس النيل حين إنطلق موكبها الميمون من تخوم الشمالية مروراً بامدرمان وليس انتهاءً بالجنينة ، غنى عبدالله رحلة هذه العروس وأبدع حينما وصل ركب العروس الميمون علي متن بص وحط رحل هودج العروس للتو في فاشر السلطان وترجل الركب من بص (صابر جرا ) الشهير ، لم تشعر العروس وقتها بغربة بل ساورها شعور باذخ بالانتماء جعلها تقول انها واحدة من أهل الفاشر بل انها فرد اصيل لها من الحقوق وعليها من الواجبات لا ينقص حقها قيد أنملة كونها وصلت الفاشر للتو . قولوا لي في اي بلد في الدنيا يشعر القادم اليه بهذا الشعور المريح بالانتماء الي كل جغرافيته لا يسأله احد من يكون هو ؟ ومن اي بقعةٍ أتى ؟. صحيح ان صديق يرقد في مثواه الاخير عند قريته الوادعة أرقى ولكنه يتمدد في كل شبر من وطنه الغالي السودان.

(8)
تتلألأ الثريات المصنوعة تتلاصف أنوارها تغمر الكون بالضياء ، ولكن عبدالله محمد خير لا يرى سوى تلك ( اللمبة ) الصغيرة التى تعمل بالجاز الابيض وقد حملتها ايدي صغيرة مدتها الي ( سيد الدكان ) حيث كان يجلس عبدالله ، طالبة منه إصلاحها لان الشعاع الضئيل الذي كانت ترسله يأبى ان يرتفع ثم انه لا يلبس ان ينطفئ فما كان من عبدالله إلا وأن جادت شاعريته يقول للجميلة ( اللمبة قالت بق !!/ والله ليها الحق / يمكن مسكتا الغيرة / يمكن خايفة بنورك يضيع نورا / ولو تاجوج في الرتبة مشهورة / انتي يمين فوق تاجوج زادوكِ دَبْوُرة ) وجاء دور صديق احمد عندما حمل الكلمات فوق ضؤ كل الثريات وجعل منها تحفة خالدة يعيشها باحساس طاغي وجميل كل من يسمعها . صديق وعبدالله في هذه الاغنية يتجاوزان الكلمات واللحن والنغم الي معاني كبيرة وقيم لا تراها إلا إذا قرأتها بإحساس عالي وقلب شفيف ( وبلدا فيها إنتى إن شاء الله بى خيرا /عشان كدة كم قلوب تابعاكى مجبورة ) نرى بعين الخيال اللمبة شعاع ونور يتمدد نتبعه لا نبلغ منتهاه ، نتوقف ..نرفع أكف الضراعة ونسأله تعالى ان يكون قبر صديق كله نور وأن يكون ( مشي وخَبْ ) وعليه ألف رحمة ونور .

(9)
يستل صديق أحمد ثقافته الموسيقية من موهبة مغروسة في وجدانه لم يكتسبها من مقاعد الدرس وانما تملأ عليه اقطار نفسه من أعماق الحمض النووي ، ذلك الذي لا يكذب ولا يمكن تزويره فهو يدلق دفقه في تلك ( النفوس الطيبة ما كانت شريرة ) وينداح ليخرج للعالمين كلمات تأتي من عبدالله والحان تأتي من صديق يودعانها أمشاج ( اغنية نسيان ) فتعود سميعة وبصيرة لتقول ( نسيتك أنا وبفتش في دليـل لـي دربـي ضـواي / دحيـن أطفيهـا نـار الغـيـره أو زيديـهـا بـوبـاي / وأبكي على غرورك بعدي أو كوسيلو رضاي / وقـول لـي مـعـاك سـلامـه، أو قوليـهـا بـابـاي ) ، وها نحن نودع صديق ونقولها بكل اللغات معاك سلامة والف رحمة وعلي قبرك نور ونقولها بكل اللغات باي باي.

(10)
صديق احمد ..بي غناك حرف السين بقت فوق بنات جيلها مبطرة ، صديق غناها ونسجها الشاعر يقول ( يا عوض مدرسة الشعر بي جدارة إياك ناظرة /بي غناك حرف السين بقت فوق بنات جيلها مبطرة ) ، صديق جعل كل حروف اللغة تتداخل في نظم بديع وفي اتساق متزن مع حروف الموسيقى ، تفك التشابك النغمي وتخرج لنا لغة جديدة حروفها ( الف باء تاء ثاء ، دو-ري – مي – فا ) تمتد تكسر كل الحواجز لتستقر في ( نون ، هاء ، واو ، ياء ..صول ،لا، سي ، دو ) فيختلط حابل الف العربية مع نابل دو الموسيقى وأعلى النون في العربية مع صول حرف الموسيقى ثم تتربع حرف العربية (سين) مع (سي ) حرف الموسيقي تلتقي هذه اللغة الجديدة عند حنجرة صديق احمد فيغني ونغني كلنا معه ( مشتهيك انا يا وطن وليك راجع لا محالة / احضن القيم العشقتك من خلالا / ما عرفت اعيش بدونا وما قدرت اقولا لا لا ) . ها انت ترحل صديق نترحم عليك وها نحن ( نحضن القيم التي عشقناك من خلالها ) ونردد ( مشاويرك عديلة / عديلة عليك ) .
وما اصعب !! ما اصعب ان تكتب يوم وداعه حين كان صديق يغني لأُناس احساسهم عالي ، صادق ، مكتمل ، طاغ وجميل ( زي بدر التمام ) . أناسٌ حينما يطلبون لا تقدر ان تقول لهم لا لا . وعندما يشتهون الوطن الذي يضمهم ، وهم ( قُراب وبُعاد ) يغني الواحد منهم (إني راجع لا محالة) !!
وكيف تكون العودة بلا صديق ؟ يحزمون الأمتعة للعودة الي وطن ليس فيه صديق ، فقد رحل صديق أحمد في العشر الأواخر من رمضان وعلي بُعد يوم واحد فقط من الجمعة اليتيمة فيه ..
ويا زمان .. يا ( زمان بالله أشهد / وكيف تعيش ألم ال علي الآلآم تعود/ الوداع مجبور عليه وليهو ردْدّْ / ومناي ليك ان شاء الله تسعد ) ، وها قد رحل صديق وصرنا كلنا وليس (الجمعة وحدها) أيتام ، وأصبحت (أرقي) ومن بعدها الخرطوم بلا صديق تستقبل الجمعة اليتيمة والعيد وهي تلوح في الهواء بآهاتها بدمعاتها وتقول ل صديق أحمد ( معاك سلامة ) وتردد الخرطوم ورائها ( باي باي ) !!
نسأل الله ل صديق أحمد الرحمة والمغفرة وجنات الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء ولا حول ولا قوة إلا بالله .

 

زر الذهاب إلى الأعلى