رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

سقوط الخرطوم أم انسحاب الدعم السريع

د. عبدالمنعم همت
حينما أعلن الجيش السوداني استيلاءه على الخرطوم، بدا الأمر كما لو أنه انتصار حاسم تحقق بعد معركة ضارية. إلا أن المعطيات الميدانية تسلط الضوء على سردية مختلفة تماما. فالخرطوم، التي ظلت لأشهر طويلة مسرحا لمعارك دامية بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، لم تشهد خلال الأيام الأخيرة مواجهات تبرر إعلان الجيش عن “تحريرها”. لقد كان المشهد أقرب إلى انسحاب منظم للدعم السريع، وليس إلى انتصار عسكري ساحق.
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، كان الجيش يعتمد على القصف الجوي والمدفعية الثقيلة في محاولاته لاستعادة السيطرة على الخرطوم. ومع ذلك، فإن إعلان استعادة العاصمة لم يكن مصحوبا بمشاهد قتال شرس أو حتى عمليات تمشيط واسعة لملاحقة المنسحبين. أين إذن كان القتال الذي أدى إلى هذا “التحرير”؟ وأين كانت الضربات الجوية التي لطالما استخدمها الجيش في دارفور وغيرها من المناطق؟
المعركة لم تنتهِ بعد، لكنها تأخذ طابعا أكثر تعقيدا، حيث تتداخل المصالح والتفاهمات غير المعلنة في مشهد يبدو أنه لم يعد مجرد صراع بين جيش رسمي وقوة متمردة
المشاهد المصورة التي انتشرت عقب دخول الجيش إلى الخرطوم أظهرت عناصر من الميليشيات الإسلامية تتحرك بحرية وترفع راياتها دون وجود أيّ مؤشرات على مقاومة فعلية. لقد أوحى ذلك بأن القوة التي دخلت الخرطوم ليست الجيش وحده، بل فصائل إسلامية مرتبطة بالنظام السابق، وهو ما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة هذا “الانتصار” ومن الذي حققه فعليا.
تزامن استيلاء الجيش على الخرطوم مع انسحاب مفاجئ لقوات الدعم السريع دون قتال، وهو ما يفتح الباب أمام فرضية وجود تفاهمات غير معلنة بين الطرفين. فرغم العداء العلني بين الجيش والدعم السريع، فإن كليهما يدرك أن الحرب لا يمكن أن تستمر بلا نهاية، وأن الوصول إلى تسوية سياسية قد يكون خيارا مطروحا على الطاولة.
وما يدعم هذه الفرضية أن الجيش، الذي كان يستخدم سلاح الطيران بكثافة ضد قوات الدعم السريع في مناطق أخرى، لم يقم بمطاردة المنسحبين أو قصفهم أثناء خروجهم من الخرطوم، بل ترك لهم المجال للانسحاب بحرية، وهي خطوة غريبة إذا ما نظرنا إلى التكتيكات التي استخدمها الجيش سابقا. فهل كان الانسحاب جزءا من صفقة تُمهِّد لمفاوضات تحفظ ماء وجه الجيش وتمنح الدعم السريع فرصة لإعادة ترتيب أوراقه؟
في خضم هذا المشهد، كان هبوط طائرة قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في مطار الخرطوم حدثا ذا دلالة. فالمطار، الذي لم يكن بعيدا عن مرمى المسيّرات التابعة للدعم السريع، شهد وصول البرهان في ظل أجواء هادئة وغير مهددة. فهل كان الجيش متأكدا من أن الدعم السريع لن يستهدف الطائرة؟ وإن كان كذلك، فهل يعود ذلك إلى اتفاق ضمني بعدم استهداف بعض الأهداف، مما قد يكون مؤشرا على قنوات تواصل غير معلنة بين الطرفين؟
ما حدث في الخرطوم لا يمكن وصفه بانتصار عسكري حاسم بقدر ما هو إعادة تموضع للقوى المتصارعة. الجيش لم يحقق نصرا عبر المعارك، بل استلم مدينة انسحب منها الخصم طواعية
إن انسحاب الدعم السريع من الخرطوم، دون قتال حقيقي، يعني أن الصراع لم يُحسم بعد، بل ربما يكون قد دخل مرحلة جديدة. فالجيش، الذي كان يخشى تكبد خسائر فادحة في حرب المدن، قد يكون فضل خيار استعادة الخرطوم عبر تسويات غير معلنة بدلا من خوض معركة شوارع مكلفة. من جهة أخرى، فإن قوات الدعم السريع، التي تدرك أن التمسك بالخرطوم مكلف عسكريا وسياسيا، قد تكون قررت الانسحاب لإعادة الانتشار في مناطق أخرى أكثر إستراتيجية.
لكن الأخطر من ذلك هو عودة الميليشيات الإسلامية إلى المشهد، مما يعيد إلى الأذهان التحالفات القديمة التي كانت تحكم السودان قبل سقوط البشير. فإذا كان الجيش قد استعان بهذه القوى، فإن ذلك يعني أن الصراع في السودان قد يتحول إلى شكل جديد، حيث يصبح الجيش مظلة سياسية للعناصر الإسلامية التي ظلت تنتظر فرصة للعودة.
ما حدث في الخرطوم لا يمكن وصفه بانتصار عسكري حاسم بقدر ما هو إعادة تموضع للقوى المتصارعة. الجيش لم يحقق نصرا عبر المعارك، بل استلم مدينة انسحب منها الخصم طواعية. والدعم السريع، رغم خروجها من الخرطوم، لا يبدو أنها تعرضت لهزيمة ميدانية قاسية تجبرها على الاستسلام.
المعركة لم تنتهِ بعد، لكنها تأخذ طابعا أكثر تعقيدا، حيث تتداخل المصالح والتفاهمات غير المعلنة في مشهد يبدو أنه لم يعد مجرد صراع بين جيش رسمي وقوة متمردة، بل ساحة صراع سياسي وعسكري تُرسم ملامحه خلف الكواليس أكثر مما يُرسم على أرض المعركة.

زر الذهاب إلى الأعلى