رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

صدى الخيال وألم الفراق: قراءة في قصيدة “يا ضنين الوعد” لصديق مدثر”

بقلم : معاوية أبوالريش
النص الكامل للقصيدة
“يا ضنين الوعد”
كلمات: صديق مدثر
أداء: عبد الكريم الكابلى
يا ضنين الوعد أهديتك حبي
من فؤادٍ يبعث الحب نديا
إن يكن حسنك مجهولَ المدى
فخيال الشعر يرتاد الثريا
كلما أخفيتَه في القلب
تنبي عنه عيناكَ
ولا يخفى عليا
أنا إن شئتُ فمن أعماق قلبي
أرسلُ الألحان شلالاً رويا
وأبثُّ الليل اسرارَ الهوى
وأصوغ الصبح ذنباً بابليا
لا تقل إني بعيد في الثرى
فخيال الشعر يرتاد الثريا
يا ضنين الوعد
كان بالأمس لقانا عابرا
كان وهما كان رمزاً عبقريا
كان.. لولا أنني أبصرتهُ
وتبينت ارتعاشاً في يديا
بعضَ أحلامي التي أنسجها
في خيالي وأناجيها مليا
يا ضنين الوعد
ومضة عشت على إشراقها
وانقضت عجلى
وما أصغت إليا
كلمة خبأتها في خافقي
وترفقت بها براً حفيا
من دمي غذيتها حتى غدت
ذات جرسٍ ياسر الأذن شجيا
وافترقنا وبعينيَّ المُنى
قالها الدمع وما أبصرت شئيا
إن تكن أنت جميلا فأنا
شاعرٌ يستنطق الصخر العصيا
إن تكن أنت بعيداً عن يدي
فخيالي يدرك النائي القصيا
لا تقل إني بعيد في الثرى
فخيال الشعر يرتاد الثريا
تعد قصيدة “يا ضنين الوعد” التي كتبها الشاعر السوداني صديق مدثر وغنّاها الفنان عبد الكريم الكابلي من القصائد التي تمثل قمة في الشعر العربي الحديث، حيث تجمع بين عمق المشاعر وجمال الصياغة وسمو الخيال. تتناول القصيدة موضوع الحب والفراق، وتصور حالة الشاعر النفسية في لحظات اللقاء والوداع، مستخدمة لغة شعرية رقيقة وصوراً مبتكرة تنقل للمتلقي ألم الشوق وحرارة العاطفة.
” البناء الفني للقصيدة”
تتميز قصيدة “يا ضنين الوعد” بإيقاعها الموسيقي المتناغم الذي يعكس حالة الشاعر النفسية، فجاءت على وزن متدفق يشبه تدفق المشاعر. أما القافية فهي متنوعة حيث استخدم الشاعر حرف الياء المكسورة كقافية رئيسية تعطي إحساساً بالرقة والانكسار، وتتناسب مع حالة الألم والشوق التي يعبر عنها.
تنقسم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع رئيسية، يفصل بينها اللازمة المتكررة “يا ضنين الوعد”، وكأن الشاعر يستجمع قواه بعد كل مقطع ليستمر في بث شكواه للمحبوب الذي بخل عليه بالوعد واللقاء.
” المقطع الأول: الإهداء والاعتراف”
يبدأ الشاعر قصيدته بنداء “يا ضنين الوعد” الذي يحمل عتاباً رقيقاً للمحبوب البخيل بوعده، ثم يعلن له أنه قد أهداه حبه من قلب نقي يبعث الحب طازجاً ندياً. وعلى الرغم من أن جمال المحبوب قد يكون غير محدود، فإن خيال الشاعر يستطيع أن يصل إلى أبعد مدى حتى النجوم (الثريا). هنا يظهر التناقض بين الواقع والخيال، فالمحبوب بعيد في الواقع لكن خيال الشاعر قادر على تجاوز هذه المسافة.
في هذا المقطع، نلاحظ قدرة الشاعر على خلق صور شعرية رائعة مثل “أرسل الألحان شلالاً روياً” و”أصوغ الصبح ذنباً بابلياً”، حيث شبه كلماته بالشلال المتدفق وجعل الصبح ذنباً بابلياً في إشارة إلى سحر كلماته وتأثيرها كسحر بابل الأسطوري.
” المقطع الثاني: اللقاء العابر”
ينتقل الشاعر في المقطع الثاني إلى وصف لقائه بالمحبوب والذي كان عابراً وقصيراً كالوهم، لكنه على الرغم من قصره ترك أثراً عميقاً في نفسه، حتى أنه شعر بارتعاش في يديه. وصف الشاعر هذا اللقاء بأنه “ومضة” أي لحظة مضيئة سريعة الانقضاء، لكنها كانت كافية ليعيش على إشراقها.
المقطع الثاني يكشف حالة من الحيرة والتوتر التي يعيشها الشاعر، فهو يتحدث عن كلمة أراد أن يقولها لمحبوبه لكنه خبأها في قلبه وتعامل معها برفق وعناية، حتى غذاها بدمه، أي أنها أصبحت جزءاً منه وتحولت إلى كلمة ذات جرس جميل يأسر الأذن.
” المقطع الثالث: الفراق والأمل”
في المقطع الأخير، يتحدث الشاعر عن الفراق وما تركه من ألم في نفسه، فعيناه مليئتان بالأماني التي لم تتحقق، والدمع هو الذي عبر عنها دون أن يبصر المحبوب شيئاً منها. لكن الشاعر لا يستسلم للبعد واليأس، بل يؤكد على قدرته الشعرية التي تمنحه قوة خارقة “شاعر يستنطق الصخر العصيا”، وعلى قدرة خياله على تجاوز المسافات “فخيالي يدرك النائي القصيا”.
ينهي الشاعر قصيدته بتكرار البيت الذي ظهر في المقطع الأول “لا تقل إني بعيد في الثرى، فخيال الشعر يرتاد الثريا”، وكأنه يؤكد على فكرة أساسية في القصيدة وهي قدرة الخيال الشعري على تجاوز حدود الواقع المادي، فمهما كان المحبوب بعيداً في الأرض (الثرى)، فإن خيال الشاعر قادر على الوصول إلى أعلى النجوم (الثريا).
” الصور الشعرية والمحسنات البديعية”
تتميز القصيدة بغناها بالصور الشعرية الرائعة التي تجسد المعنويات وتشخص الجمادات، مثل: “أهديتك حبي من فؤاد يبعث الحب نديا” تشبيه القلب بالينبوع الذي يبعث الحب طازجاً. “تنبي عنه عيناك”: تشخيص للعيون وجعلها تتحدث وتخبر. “أرسل الألحان شلالاً روياً”: تشبيه الألحان بالشلال المتدفق. “أصوغ الصبح ذنباً بابلياً” استعارة جميلة تصور الصبح ذنباً بابلياً في إشارة إلى السحر.
“من دمي غذيتها”: استعارة مكنية حيث شبه الكلمة بكائن حي يُغذى.
كما استخدم الشاعر التضاد في مواضع عدة مثل التضاد بين “الثرى” و”الثريا”، وبين القرب والبعد، وبين الوهم والحقيقة، مما أضفى على القصيدة عمقاً وحيوية.
” الأبعاد الفلسفية والنفسية”
تطرح القصيدة قضايا فلسفية عميقة حول العلاقة بين الواقع والخيال، بين المادي والروحي. فالشاعر يرى أن الخيال الشعري قادر على تجاوز حدود الواقع المادي وقيوده، وأن الحب الصادق لا تحده المسافات ولا الظروف.
كما تكشف القصيدة عن الحالة النفسية المعقدة للشاعر الذي يعيش حالة من الصراع بين الأمل واليأس، بين الرغبة في التواصل مع المحبوب والعجز عن تحقيق ذلك. ومع ذلك، فإن الشاعر يلجأ إلى الشعر كملاذ يمنحه القوة والقدرة على تجاوز هذا العجز، فيصبح الخيال الشعري وسيلته للتغلب على قيود الواقع.
” الأداء الغنائي لعبد الكريم الكابلي”
لا يمكن الحديث عن قصيدة “يا ضنين الوعد” دون الإشارة إلى الأداء المتميز للفنان السوداني عبد الكريم الكابلي الذي استطاع بصوته العذب ونبرته الحزينة أن ينقل إحساس الشاعر وعمق مشاعره. لقد أضاف الكابلي بأدائه المتميز بعداً جديداً للقصيدة، جعلها تنساب في آذان المستمعين وتلامس قلوبهم، فأصبحت من أشهر أغانيه وأكثرها تأثيراً في الوجدان السوداني.
تظل قصيدة “يا ضنين الوعد” من روائع الشعر العربي الحديث التي تجمع بين جمال اللغة وعمق المشاعر وسمو الخيال. إنها قصيدة تتجاوز حدود الزمان والمكان لتعبر عن تجربة إنسانية أصيلة هي تجربة الحب والفراق، وتكشف عن قدرة الشعر والخيال على تجاوز قيود الواقع المادي.
لقد استطاع صديق مدثر من خلال هذه القصيدة أن يحول تجربته الشخصية إلى تجربة إنسانية عامة، وأن يجعل من معاناته الذاتية مادة فنية راقية تخاطب كل من عانى ألم الفراق وعاش لوعة الحب، فكانت بحق قصيدة خالدة تستحق التأمل والدراسة.

زر الذهاب إلى الأعلى