رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

عندما يأتي الندم بعد فوات الأوان: رحلة في أعماق قصيدة التجاني حاج موسى”

بقلم : معاوية أبوالريش
تمثل قصيدة “من بعد ما فات الأوان” للشاعر السوداني التجاني حاج موسى، والتي أبدع في أدائها الفنان عبدالوهاب الصادق، نموذجاً راقياً للشعر الغنائي السوداني المعاصر الذي يتناول موضوع الندم والحسرة على الفرص الضائعة في الحب والحياة. هذه القصيدة تحمل في طياتها عمقاً إنسانياً وجمالية لغوية تجعلها تتردد في أذهان المتلقين كصدى لتجارب إنسانية مشتركة.
” البنية الموضوعية والمعنى العام”
تدور القصيدة حول محور أساسي هو الندم المتأخر، حيث يخاطب الشاعر محبوباً عاد إليه يعتذر بعد أن فات الأوان. القصيدة تصور رحلة عاطفية مؤلمة من الأمل إلى الخيبة، ومن العطاء إلى الحرمان، ومن الانتظار إلى اليأس.
” التحليل التفصيلي للأبيات”
المطلع: استهلال الحسرة
“من بعد ما فات الأوان
الليلة جاي بتعتذر
بترجع أيامنا الزمان
من وين نجيب ليك العمر”
يبدأ الشاعر بتصوير المفارقة المؤلمة: المحبوب يأتي معتذراً في الوقت الخطأ. استخدام عبارة “فات الأوان” يحمل دلالة الحتمية والقدر المحتوم. التساؤل الاستنكاري “من وين نجيب ليك العمر” يكشف عن استحالة استرداد الزمن الضائع، وهو تساؤل فلسفي عميق عن طبيعة الوقت والحياة.
الجمالية هنا تكمن في البساطة التي تحمل عمقاً، والإيقاع الموسيقي الذي يتناسب مع حالة الحزن المكتوم.
” ذكريات العطاء”
و فرحت بيك مديت دروب الريد سماح
و غزلت ليك طيبة مشاعري غطا و وشاح
لكني وآ ضيعة
رجاي
رديتني مكسور
الجناح
هنا يستحضر التجاني حاج موسى ذكريات العطاء السخي. استعارة “مديت دروب الريد سماح” تصور كيف فتح قلبه وطرقه أمام المحبوب بكرم وسخاء. أما استعارة “غزلت ليك طيبة مشاعري غطا ووشاح” فتشبه المشاعر بالنسيج الذي يُحاك بعناية ومحبة.
التضاد المؤلم يظهر في الانتقال من العطاء (“غزلت”، “مديت”) إلى الخيبة (“ضيعة رجاي”). استعارة “مكسور الجناح” تصور الشاعر كطائر فقد قدرته على الطيران، مما يرمز لفقدان الأمل والطموح.
” طعم المرارة”
وسقيتني بعد الحلوة
مر
بعد ما
فات
الاوان
يستخدم الشاعر هنا التضاد البليغ بين “الحلوة” و”المر” ليصف كيف تحولت تجربة الحب من حلاوة إلى مرارة. التقطيع البصري للكلمات (“مر”، “بعد ما”، “فات”) يعكس تفتت المشاعر وانكسارها، كما يحاكي إيقاع الألم المتقطع.
” العتاب والمعاناة”
يا الى غرورك كم قسيت
كان ظني فيك تكون حنين
غالبت أحزاني و مشيت
في سكة الشوق بالسنين
و براي بالنار انكويت
صليتني بعد الفرقة بين
لحد ما كمل الصبر
هذا المقطع يمثل ذروة العتاب العاطفي. النداء “يا الى غرورك كم قسيت” يحمل تساؤلاً مؤلماً عن قسوة المحبوب وغروره. الشاعر يصور رحلته الطويلة في “سكة الشوق بالسنين”، مما يدل على طول فترة الانتظار والمعاناة.
استعارة “بالنار انكويت” تصور شدة الألم، بينما “صليتني بعد الفرقة بين” تشبه المعاناة بالصلي على النار. الصورة الأخيرة “لحد ما كمل الصبر” تدل على نفاد الصبر ووصوله لحدوده القصوى.
” عودة للبداية”
من بعد ما فات الاوان
الليله جاي تعتذر
يعود الشاعر لنفس البداية، مما يخلق بنية دائرية تعكس دوران الزمن ولكن مع اختلاف المعنى. هذا التكرار ليس مجرد إعادة، بل هو تأكيد على حتمية الخسارة.
” الجماليات الشعرية”
الصور الشعرية
الاستعارات المكانية: “دروب الريد”، “سكة الشوق” تحول المشاعر إلى مسارات مادية
الاستعارات الحرفية: “غزلت مشاعري” تشبه العواطف بالنسيج
الاستعارات الطبيعية: “مكسور الجناح” تستخدم صورة الطائر للتعبير عن الكسر النفسي
” الموسيقى الداخلية”
القصيدة تحتوي على إيقاع داخلي يتناسب مع المعنى، حيث تتسارع النبرة في مواقع الألم وتهدأ في مواقع الحزن الهادئ.
” اللغة والأسلوب”
يمزج التجاني حاج موسى بين الفصحى والعامية السودانية بطريقة تثري النص وتقربه من المتلقي، مما يجعل التجربة الشعرية أكثر صدقاً وحميمية.
تمثل هذه القصيدة نموذجاً متميزاً للشعر السوداني المعاصر الذي يتناول التجارب الإنسانية العميقة بلغة شاعرية راقية. إنها تحفة فنية تجمع بين جمال اللفظ وعمق المعنى، وتصور ببراعة رحلة الحب من الأمل إلى الخيبة، من العطاء إلى الحرمان، وأخيراً من الانتظار إلى اليأس.
التجاني حاج موسى نجح في خلق عمل شعري يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليصبح مرآة تعكس تجارب إنسانية مشتركة، بينما أضاف عبدالوهاب الصادق بصوته المميز بُعداً جمالياً آخر جعل من هذا النص قطعة فنية متكاملة تبقى راسخة في الذاكرة الجمعية.

زر الذهاب إلى الأعلى