
العَطَس
وجدي كامل
لم أكن أعرف الحرب من قبل، ولم أدرك أنها تخطو بخطوات ثابتة سريعة نحوي. لم أتحسب إلى أنها ستقدم إلى عقر داري، وتنفث دخانها بسماء بيتي. إنها اليوم هنا، تتسرب عبر رائحتها الثقيلة، وتتسرب عبرشقوق الهواء. من مدة وأنا أشعر بها وهي تتلوى في أمعاء المدينة، تنبض في عروق الناس والأشياء حولي حتى إذا بها ترشُني باليأس وتشكُ سهام االعجز بأنحاء جسدي دون ان اتمكن من أن احول بينها وبيني.
كان آخر يوم عمل لي في تدريس فنون الرسم انا مدرس الفنون المخضرم بإحدى المدارس الثانوية، كان درسا يهتم بتعليم التلاميذ كيف يرسمون وجها آدمياً، لكنني لم أتوقع فشلا سيصيبني في مثل لحظات كهذه لا أقدر فيها على رسم او وصف وجه المكان، وجه الخرطوم، وقد أصبحت جسدًا محمومًا يحتضر ببطء.
منذ عامين سبقتا الحرب كانت المدينة قد أنهت سبابها للثورة بمختلف اللغات واللهجات، واستحالت كعجوز شاخت في شهقات الأحداث، تصفعها رياح أزمنة بدت متوحشة. أشياء عدة باتت مثيرة للإرتباك. التفاصيل كالغبارأصبحت تخنقك إن أكثرت التحديق فيها والتمعن في نوبات إضطراباتها. كنتُ، وفي تلك الأثناء من وعكة الحال أهرب بخيالي إلي تفاقم عهد عملنا لأجل التغييروالمقاومة لإستبداد النظام الحاكم. اما الآن فقد إعتدت على الهروب إلى شاطئ النيل حيث الماء يعكس أرواح مفقودينا التائهة. هناك، لم أكن أراقب موج النهر فقط، بل أنتظر. أنتظر أن تطفو الجثث التي حملتها الأمواج، كرسائل أخيرة من صمت الغدر الذي مس هبتنا وفض بكل شكل وحشي إعتصامنا. كل الأيام كنتها هنالك، على الضفة أجلس مراقبا، وأحيانا أصلي لأجلهم وأطلب من النهر أن يمنحهم سلامه وصفحه، وبركاته.
واجهوا وقفتنا التاريخية البطولية بأفظع ما يكون، وقضوا على سلميتنا بقوة السلاح. فتكوا بنا، حرقوا خيامنا، ومحوا رسوماتنا على الجدران، إعتصبوا أقوى الثائرات، وأطلقوا الرصاص في صدورالثوار. عادت الخرطوم ألى بيت حبسها القديم. حل التجهم بدلا عن التبسمأ واليباس بدلاً عن الخضرة، وزرعوا التشاؤم محل التفاؤل. لم تعد الإدارات تعن بتقديم الخدمات أوالصيانة المامولة الوحدات السكانية. فقد بدت، وفي اغلب الاحيان الأحياء السكنية تحت سيل من الازمات الساحقة المتدفقة. بدت الخرطوم وقتها ككرش الفيل التي تتلوى وهى ترسل رسائل الغثيان واللعنة. عادت مرة اخرى مدينة لا تنعم بخدمات الكهرباء والمياه المنتظمة بعد ان عاد نظام القطع اليومي من الهيئة العامة للكهرباء بحجة انخفاض مياه النيل تارة، وتارة بسبب انعدام الوقود المنشط لعمل خطوط الامداد. نظام القطع المنظم نظام عادة ما كان يضع الاحياء السكنية في مربعات تحت تهديد البقاء خارج الخدمة لساعات طوال بمواقيت محددة تسمح بسريان التيار الكهربائي وبأخرى تمنعه. الشوارع فائرة، والغليان له أكثر من تعبير. الأسواق تعج بالمولدات، أصواتها كهدير قطيع جريح، ودخانها يعانق السماء كدعاء مضاد.
الطرقات تحولت إلى أسباب من الفوضى، عربات منهوبة، ودراجات بخارية طائشة كأحلام ضلت طريقها إلى النضج. ازدحمت الطرقات بالعربات المتفلتة، غير المرخصة وهى عربات تم نهبها في الاصل في فوضى حروب جرت بدول مجاورة. اغلب ممن لم تكن لهم قدرات تشغيلية سابقة إنخرطوا في القيادة، وأحيانا ممن كانوا يتولون وظائف مرموقة قبل ان تجورعليهم الدولة. أما الطرقات الجانبية والازقة فقد امتلأت بعجلات بخارية تمت معالجتها لتكون في هيئة عربات صغيرة سميت بالركشات التي يقودها شباب في سن وسلوك الطيش. لا إمتثال لديهم لقوانين السير والمرور ولا حقوق الآخرين في التمتع بهدوء أثناء نزهاتهم. حتى الاغاني الذائعة باتت تصمم على أذواقهم وذائقاتهم فتكاد تسمعها شئت أم أبيت عبر اجهزة تسجيل ذات ابواق عالية، وقدرة على اسماع من به صممُ. فانت، وفي طريقك لاهدافك اليومية، او قضاء اعمالك الروتينية لا تنجو من قصف كلمات تلك الاغاني التي تكاد تقلب موازين الغناء، وتضع مغنيات كنادية الجبل، وشادية الكلاكلة، واحلام المزاد في مرتبة مغنيات عظيمات رحلن كعائشة الفلاتية التي لُقبت بمسمى فلاتية لتحرر واحدة من أقدم علامات التمييز القبلي، والتمهيد للإنقسام الاجتماعي، ومناداة المواطنين والمواطنات باسماء مصادرهم الأثنية والقبلية. سالت ذات مرة جار لنا طاعن في السن، يعود نسبه الى تلك القبائل المعجبة بأصولها، وكان ممن عاصروا بزوغ نجم (الفلاتية) هل تعتقد ان في ذلك الزمان كان يسمح بظهور عائشة اخرى جعلية ؟ نظر لي الكهل شذرا وقال بكل ثقة “لا طبعا”. هذا ايضا كان “دافعا للحرب” قلت في نفسي، ومضيت أبتعد عنه.
في أوقات الاختناق المروري، كان الهواء نفسه يبدو أثقل، وكأن المدينة بأسرها تتهاوى. تهتز بكل نواذها وأبوابها وهى تخضع للعواصف، وتسلم امرها لها طائعة مختارة، كنت أسمع السائقين يطلقون شتائمهم كطلقات رصاص، كل كلمة تحمل في طياتها سيفًا مسمومًا من العنصرية. في بلدٍ يمتد كقوس قزح من السحنات والوجوه، كان هذا التمزيق العلني لكل قيد اجتماعي إعلانًا أن لا أحد يخشى القانون بعد الآن. إذن، إنها الحرب. كنت أتنفس دخانها، أشعر بها تتسلل إلى رئتي كغبار سام، حتى أنني صرت أعطس من رائحتها في غمرة أحلامي، وأحلم بها مرات وهي تمزق نومي كزائر ثقيل الظل، غير مرحب به.
لكنني، لا أذيع سرًا إذ قلت، بأني صرت أشعر أحيانًا أن أحلامي لم تعد ملكًا لي. هناك قوى خفية، أيدٍ شبحية، لا مرئية، تلعب بمحتوياتها. أحلامي باتت تافهة وسائلة، كأنها برك ماء راكدة تصادفني في منجنيات حياتي فتعكس وجهي دون أن أتعرف عليه او أتعرف عليه بعد مجهود، وبصعوبة بالغة.
في إحدى الليالي، وهى ليلة لم تكن بعيدة إن شئت الدقة، كنت في حلم دائري، حلم متكرر، أرى لوحاتي وصور عائلتي التي خزنتها بحرص لأكثر من أربعين عامًا تتحول إلى فراشات ممزقة الأجنحة، تتناثر في الهواء كقصاصات ورق تحملها الريح بعيداً بعيداً، تسافر مثل طيور جريحة إلى أماكن لا أكاد أعرفها أو أملك معلومات عن تاريخ نشأتها. كنت أراقب ذلك والدموع تنهمر من عيني، فيما أسأل نفسي: من أنا؟ ولماذا أني هنا؟ ولأي هدف جُلبت إلى هذا الوجود الذي يبدو أشبه بمتاهة بلا بوابة للخروج؟
أمس فقط، تحت شمس تكاد تذيب عظامي، وتحت يقظة من أمري كان طنين الذباب ينقب في كتفي وكأنه يزرع حفرًا من اليأس. أما البعوض، فقد حاصر فروة رأسي الحديث الحلاقة، بينما كثفت الفئران هجومها اسفل قدمي اليمنى. اما اليسرى فما عدت احس بالدماء تسرى في حوافها بعد ان تسلقها النمل لايام وليال تسلقها كأنها جرفٌ مهجور. لقد ماتت رجلي المسكينة ميتةً بدات من اسفلها دون ان اتمكن من دفنها لتصبح عرضة لهجوم كاسح وشيك لكلاب ضالة. انها الان قدم زائدة ، لا تمت لي بصلة قربى او حتى لذاكرتي بنسب ما بعد ان تيبس جلدي. لقد قدم الغزاة وبدون مقدمات الى بيتي فاوسعوني ضربا دون تفسير ورموني الى الخارج متكوماً على مرتف لقاذورات قبل أن يراجعون عقابي ويتركونني مقيدا بسلك الكهرباء التي عطلوها- في ذات العمود الذي ربطوني به امام بيتي، انتظر لحظة اعدامي وقد خرجوا من الأبواب يحملون بشاحناتهم اشياء حياتي.
إذن، هي الحرب. أزيز الطائرات فوق رأسي كأنه غناءٌ معدني لا ينتهي، وسموم الرصاص تُثبّت عيني في محجريهما قبل أن أراهما، مثل نجمتين منطفئتين، تسقطان أرضًا. أنفي لم يكن أوفر حظًا؛ طار فجأة كأنه جناح خفيف، بعد أن أصابه سهم خفي من قناصٍ يبدو أنه فقد عقله. كان هناك، فوق البناية المجاورة، يمارس لعبة الموت بلا اكتراث، يصوّب سلاحه نحو تفاصيل الحياة الصغيرة. يسلي وبالأحرى سلاحه بالتصويب نحو تفاصيل غير مهمة كنتُ، وبما تبقى لي من اعضاء هدفا معلنا لها. لكن، ولسبب ما، نجوت. ليس لأنني كنت محظوظًا، بل لأن السماء قررت أن تختارني شاهدًا على وجه من وجوه المأساة.
نجوت من موت محقق حين رايت جسد القناص، ومن ذلك الارتفاع الشاهق يسقط ارضا. لم تُصب المبنى طائرة حربية بذاتها، ولكنها مسيرة فيما بدأ لي استهدفته بعد ترصد دقيق. الجنجويدي الذي قيدني وبدون مقدمات رايته يهرب حين سمع وشاهد سقوط رفيقه القناص من علٍ. اصبحت، وبما لدى من قوة أعمل على فك أسلاك الكهرباء المقيدة لي. كنت وفي غمرة ذلك الجهد العنيف قد شعرت بسقوط ما تبقى من أسناني لتلتحق بأخرى كانت قد وقعت ا اثناء اللحظات الاولى من صدمة دخولهم بيتي. بيتي الذي كنت قد جعلته قلعة محصنة، وحافظت لعشرات السنين على متعة الا يدخله احد غيري.
كأنت الحرب تمارس طقوسها، فصرت اهرب اماماً أبحثُ عن مستقر آمن في وقت أصبحت فيه ارى عشرات الهاربين مثلي وقد تركوا بيوتهم مفتوحة الابواب وذكرياتهم المعلقة نهباً لغزاة نثروا الاوراق، واخذوا اموال من له مال، وذهب مَن ذَهب تاركا له،. كنت امشي بأقصى ما اتمكن من سرعة، أمشي دون إلتفات او نظر الى شئ حولي، عدا ما أراه أمامي. كانت أرى السارقين محملين بمعدات المطابخ، وبالاجهزة الكهربائية والكومبيوترات المحمولة وهم على عجل من امرهم. كنت ارى الجثث تملأ الشوارع والكلاب تنهش في لحومها وكان خوفي ان أكون التالي، أتحول لذات المصير. ولكى أتفادى كل هذا الخطر سأقرر بعد قليل اتخاذ دروب أخرى مختلفة وإن كانت بعيدة، مليئة حوافها وأرصفتها وبطونها بقطع صغيرة حادة من حجارة صخرية.
بعد حوالى الساعتين، كنت قد مشيت نصفها الثاني حافي القدمين بسبب تلف أصاب حذائي الأيمن.
وصلت إلى حيّ قصي من المدينة. كنت اود المشي أبعد ولكن خذلتني قواي وصار تنفسي متلاحقاً، وثقلا برأسي قد حط. صرت أمشي بصعوبة حتى أصبحت قابلا لأن ألوذ بأي بيت، بأي ماوى مؤقت ينجيني من خطرهم.
وصلت حيا في الجهة الشرقية. بدا الحي كظل مدينة، بيوته شعبية وقليلة العدد. كل شيء كما كان مهجورًا، خاليا من البشر ، قلت حسناً، إنه حى لم تصل إليه حاسة شم الغزاة بعد، رغم أن أزيز الطائرات وقصفها ظل يستمر في الأفق.
لم أكن أبحث عن الأمان فقط، بقدر ما كنت أبحث عن مكان أذوب فيه مع ظلي. دخلت أول بيت وجدته بمواجهتي. كان بيتاً مبنيا من الطوب الاحم، بابٌ مفتوح، جدرانه تحمل صدى أقدام غادرت على جناح السرعة. في الداخل، بدا لي أن أهله رحلوا للتو، فالثلاجة كانت لا تزال متجمدة، ومحتوياتها تحتفظ ببرودة. شعرتُ أنني اقتحمت زمنًا لا يخصني، لكن حاجتي دفعتني للتعامل مع المكان كأنه لي. لم أنم بالليلة الاولى، جفّت عيوني من السهر وأنا أترقب، أتوقع أن يقع هجوم من أي زاوية.
بالليلة الثانية فقط، وقبل هبوط الشمس كنت أتحرك على مساحة البيت. وجدت ثلاثة غرف، إحداهما مغلقة. وجدت صالة صغيرة، ومطبخ وحمام. حالة البيت لم تكن بائسة، كانت معتدلة، وهذا بيت غالبا ما غادره أصحابه من مدة قصيرة سبقت وصولي إليه. تملكني الجوع فصرت أقتات على ما تبقى في الثلاجة من بقايا أكل. في اليوم الثالث توقف التيار الكهربائي. لم أكن أعلم العلاقة الوطيدة بين الخوف والجوع فقضيت غير آسفٍ على كل ما كان محفوظا بالثلاجة، وبت أبحث بحثا محموما عن أي شيء آخر يمكن أن يسد جوعي ورمقي بعد ان بدأ الماء في الإختفاء من الماسورة. كنت أأعثر أحيانًا حفنة من حبوب، دقيقًا نُسيَ في زاوية، أو خبزًا ناشفًا ملفوفًا بإهمال في كيسٍ مطوي.
في يوم لاحق، وبينما كنت أجوب زوايا البيت، وقعت عيناي على باب جانبي يقود إلى غرفة طرفية، غرفة رابعة لم أحسبها في البداية. دفعت الباب بخفة وخوف من يخشى أن يستيقظ المكان من نومهفي حالة قيامه بلمس أي شئ. في الداخل، وجدت عالمًا مختلفًا. كانت الغرفة صغيرة، جدرانها مغطاة بأرفف امتلأت بمئات الكتب، وركنها يعج بأطنان من الأوراق المتناثرة. وعلى كرسي خيزران قديم، أمام طاولة للكتابة، كان هناك جسد هامد لرجل بدا لي أنه تجاوز السبعين. وجهه مستدير، عيناه جاحظتان، رأسه الأصلع متكئ على كتفه وكأن الموت زاره وهو يكتب كلمته الأخيرة. رغم الفارق الزمني والتغير الذي أصاب الملامح إلا أنني أستطيع الجزم بانه ذات الشاب الذي رأيت صورته عند التخرج بإجدى الغرف التي هنالك.
الغرفة لم تفح منها رائحة الموت بعد، كأن الزمن توقف معها في لحظة رحيله. حدقت فيه طويلاً، قلت لنفسي: “لم يقتلوه. هذا رجل اختار الموت أو اختاره الموت وحده.” لا أثر لجروح أو دماء. فقط صمتٌ ثقيل، يشبه صمت ذات البيوت المهجورة.
الشوارع خارج البيت كانت فارغة، لا أثر لأحد أستعين به على دفنه. قلت: “إذن، سأكون وحدي من يتولى الأمر.” بدأت أحفر الأرض، قضيت الليل بأكمله أواجه التراب، حتى غاصت يداي في حفرة عميقة، حفرة كانت كافاية لتبتلع الغياب. حملت جسده الهزيل، كأنه صفحة تهاوت من كتاب قديم. صببت عليه آخر قطرة ماء وجدتها في طست نحاسي تحت ماسورة صدئة، ثم صليت عليه صلاة الميتين. دفنته، أهَلت عليه التراب الذي جمعته من أركان البيت. كان المشهد أشبه بمراسم قديمة، طقس جنائزي في عالم مهدد بالاندثار. وفي الأعلى، كانت السماء ممتلئة بأزيز الطائرات، أصواتها ترسم خطوطًا حمراء في الأفق، كأنها تشهد على ما فعلتُ، أو تنتظر دورها لتأخذني أيضًا.
بضع ساعات تمضي على دفني لصاحب المنزل وستشرق شمس صباح اليوم التالي وكأنها تسخر من نعاس لم يزرني أبداً. كنت أستمع لأنفاسي تتلاحق وكانها تقاطع ذاك الصمت الذي خيم على المكان بعد الدفن.أسئلة شائكة أصبحت تجول بذهني عمن يكون الرجلن وهل يعيش لوحده؟ وأين أسرته، خاصة وان عدد الأسرة كان يوحي بوجود أسرة؟ ولماذا تركوه وحيداً؟ بدات أفكر في إعادة دخول الغرفة المكتبية التي وجدته بها ميتا. قلت لا بد من ان سرا ما سيكون هنالك.حين دلفت الى الغرفة المزدحمة بالكتب والاوراق في جنباتها الأربعة لفتت إنتباهي أوراق موضوعة على صدر الطاولة وكانها كانت ىخر الاوراق التي ىكان يعمل عليها المرحوم. إقتربت من الطاولت وامسكت بالحزمة الورقية التي بدت كمسودة او مخطوطة. هنا، وفي هذه الأثناء، باغتني صوت باب الحديد الرئيسي وهو يقع. لم يقع كأنه يفتح، بل بل أصدرأصواتا دفعة واحدة، مثل قلب يئن تحت وطأة الغزاة.
رأيت الأحذية أولاً، أحذيةً أعرفها، وتعرفها الشوارع جيدًا، تخطو بثقلها فوق أرض المنزل، تزرع المكان بخطواتها. كانت أصواتهم كالرصاص، وأيديهم تمسك الأسلحة كأنها عصي لإعادة تخطيط العالم. أحاطوا بي من كل الجهات، يصيحون، يشيرون، يهددون بأصوات خشنة وآمرة. في أقل من خمس دقائق، ومن حيث لم أدر، تلقيت أكثر من عشر صفعات، كل واحدة منها كانت تحمل لغة مختلفة من الشتائم والأسئلة.
“وين القروش؟”
“وين الذهب؟”
“ورينا مكان الدهب وين”
حاولت التحدث، أن أشرح لهم أنني غريب عن هذا البيت وأن القدر وحده قادني إلى هنا. لكن صوتي كان خافتًا أمام صراخهم، كأن مجرد همس في إعصار:
وفجأة، صاح أحدهم، مشيرًا نحو القبر الذي حفرته ليلًا
“أهو ده المكان! هنا القروش والذهب لقيتو، لقيتو،”
تسمرت مكاني. حاولت أن أخبرهم أن هذا قبر، أن هنا يسجى جثمان الرجل الذي عاش في هذا البيت، وأنني دفنته احترامًا لذكراه. لكنهم لم يسمعوا. كانوا كالذئاب التي تشتم رائحة فرائسها، نبشوا القبر بعنف، أيديهم تحفر بلا توقف، يبدون كأنهم ينقضّون على كنز دفين.
كنت أقف هناك، منهاراً، أراقب التراب وهو يتناثر كغبار الأحلام المحطمة. كل رفشة من أيديهم كانت تمزق الصمت، وتمزقني معها. بدا لي وكأنهم ليسوا مجرد لصوص، ليسوا مجرد كارهين، ، بل قضاة يحاكمون الموتى، يفتحون قلوبهم المدفونة بحثًا عن أسرار قد لا تكون موجودة.
تسمروا في أماكنهم، أعينهم شاخصة إلى الميت الذي كشف عنه النبش، عاريا كما خلقه الله. كانت عيونهم متيبسة وكانهم فوجئوابأن القبر ليس به ذهباً ولا خزانة أسرار. أحدهم أشار لي بعنف مخاطباً:
” “رجعوا رجعو محله
لم تكن لحظتها ثمة أي جدوي أو فائدة من الإستفسار او التلكؤ. خياري كان واحداً وحيدا وهو اعادة دفن الميت كما ينبغي. كانت الأرض تكاد تبتلعني مع كل حفنة تراب أهيلها فوق الجسد الذي اكون قد دفنته مرتين.يدي المتعبتان كانتا تتوسلان الراحة، لكن الوقت لم يكن كريماً معي، كان متآمراً مع الغزاة. وما ان انتهيت من مهمتي القاسية حتي سمعت صوتاً يناديني من الداخل بحدة أشد من ذي قبل:
تعال هنا يا فلول” ”
دخلت متثاقلاً تكاد قدماي لا تقويان على حملي. كانوا في الغرفة الوسيطة التي بدأ لي انها كانت تستخدم كمكان إستقبال. كل شئ فيها كان مشحوناً بالذكريات، لكنهم وفيما يبدو لم يروا سوى صورة فوتوغرافية واحدة على الحائط.
. سأل أحدهم مشيراً إلى الصورة.
“ده منو ده؟”
كان الرجل في الصورة شابا وسيما، يرتدي بذلة الخريج الجامعي.
ترددت للحظة ثم أجبت بصوت حاولت ان أجعله واثقاً ثابتا:
“ده المرحوم لما كان شاب، والصورة دي يوم تخرجه من الجامعة”
لكن هيهات. فقد تلقيت لكمة كان من الممكن ألا افق منها، لكمة كادت أن تؤدي بحياتي مرة واحدة، في الوقت الذي كان فيه الملاكم يضيف تعليق انني كذاب أكذب، ويؤكد على ذلك قائلاً:
“مش قلت انت غريب وما بتعرف زول هنا؟” وهنا سقط بيدي ولم أعرف ماذا افعل، وكيف أتصرف؟.
لم اكن أتوقع ان اكمل كلامي لأشرح قبل أن يلاحقني ىآخر، وكان أشد غلظة، يوجه سلاحه نحوي: “ما تكضب ، اتكلم قول الحقيقة! الزول ده وين؟”
“ثم ما فتئ ان إستنتج لوحده قائلاً: “الزول ده دكتور ونحنا عاوزنو
شعرت ان العالم ينغلق من حولي، وكان الحوائط تقترب الى بعضها لتسحقني. حاولت ان أقول إنني لا أعرف شيئاً أكثر مما قلته، لكن صوته كان اعلى من صوتي:
“لو ما قلت الحقيقة الرصاصة دي حا افرغها فوق رأسك ده ”
لم ادر ماذا افعل!! فانا اجيبهم ومنذ البداية بما اعرف من معلومات ولكنهم لا يصدقونها. هنا اعتصرني البكاء وصرت ابكي وانا احاول ان اقسم لهم بالله وبالسماوات السبع ورسوله باني لم أغش في شيء، واني رجل مسكين قادتني قدماى الى هنا بمحض الصدفة. لا أعلم ما الذي أثر فيهم: دموعي التي إنهمرت بغزارة أم صوتي الذي إنكسر! لكن لم تمضِ إلا دقائق حتى تغير كل شيء. كانوا كأنهم رموا أقنعتهم مع كدمولاتهم وأسلحتهم الثقيلة. توزعوا في أنحاء الدار، كل واحد منهم شغل زاوية أو ركنًا كأنهم يبحثون عن لحظة راحة مؤقتة وسط كل هذا الجحيم. وقفتُ في مكاني، لا أعرف كيف أتصرف أو ما يجب أن أفعله. كنت أشم رائحة الموت والدم تفوح من ملابسهم ومن أجسادهم ذاتها، رائحة ثقيلة تكاد تخنق الهواء من حولي. بدا لي أنهم يحملون على أجسادهم خطايا العالم كله، ومع ذلك، كانوا يتحركون بهدوء غريب، كأنهم في استراحة عادية بعد يوم عمل مرهق.
فجأة، كسر الصمت أحدهم، صوته كان عاديًا بشكل مربك
“عندكم صابون؟”
تجمدت للحظة، لم أكن متأكدًا إذا كان بالبيت صابون حقًا. بدا لي السؤال عجيبًا، غير متوقع، كأن شخصًا يسأل عن وردة وسط ساحة معركة. ومع ذلك، تجاسرت، محاولةً لتجنب غضبهم، وأجبت بتردد:
قلتها وبدا ان صوتي صارت به حشرجة وممزوجاً ببكاء.”حا أفتش ليك”
شعرت وأنا أقولها كأنني ألقي بنفسي في نهر مجهول. تركتهم خلفي وبدأت أبحث، عيني تلتقط كل تفاصيل المكان كأنها تبحث عن إجابة لا علاقة لها بالصابون. كنت أتساءل في داخلي: كيف يمكن لمخلوق يحمل رائحة الدم والموت أن يطلب شيئًا بسيطًا كالصابون؟ أهو بقايا إنسانيتهم التي تتشبث بأبسط الحاجات، أم أنهم ببساطة يعيدون تمثيل أدوارهم؟.
فجاة سمعت كما صوت احدهم وهو ينطلق كالسهم نحو آذان الآخرين. لقد إخترق صوته الصمت وصار كان كما الصرخة الاولى التي تتكون في لحظة الانتصار. إنه صوت كما صوت ىالصياد الذي وجد بعد معاناة فريسته فخرج داوياً فرحاً من الداخل:
ثم سمعته يكرره: “عسكري! عسكري جيش… وعريف جيش كمان- عسكري طلع”
هنا أبصرته، شابًا نحيلًا بشاربٍ ييجتهد، بل ُيجاهد بأن ينمو فوق شفتيه. كان يحمل رداءً عسكريًا قال إنه وجده تحت لحاف سراير. كان الرداء يبدو قديما، وكان الشريطان على كتفه الأيمن كشهادة ميلاد لحفلة تعذيب جديدة.
هنا هجموا على جميعهم دون فرز. إنهالوا على ضربا مبرحا وهم يصيحون:
فلول فلول – طلع فلول الوسخ العفن”.
هنا تمنيت لو ان الارض إنشقت وأبتلعتني. بعدها بثوان كنت ممددا على الارض بين الحياة والموت بينما كل ذلك لم يولد رحمة او حتى شفقة في قلوبهم، ولم يثنهم عن توجيه طلبات ساخنة لي مثل:
” باع!! ” قول
” قلت “باع!!
” قول”ميع!!
“” قلت “ميع!!
هنا نهزني وأوقفني الاشد غلظة، والذي كانما كان يوجعه امر اني لا أزال على قيد الحياة، نظر لي في عيني بنحو مباشر، وكانه يسأل جثة هادة عن آخر أمنياتها، ثم وجه لسؤاله المتهكم لي:
” ” أها لقيت المعاملة كيف؟
في تلك اللحظة، وعلى الرغم من أنني كنت أشبه بخرقة ممزقة ملقاة على الارض، لاحظتُ أن أحدهم أخرج هاتف آيفون جديدًا وبدأ في تصوير المشهد، بثًّا حيًّا على الهواء.
لا أدري، ولكني شعرت أن مصيري قد يصبح الآن محتوىً للفرجة المجانية الواسعة النطاق، لا أكثر ولا أقل، ارتجفت شفتاى، ثم قدماي من فكرة أن أبدو عند تلاميذي وأهلي ومعارفي وأمام جمهور لا أعرفه فينظرون بأسفٍن وقد يضحكون على حالتي. أه جمهور لا يغفر. ، رفعت صوتي المتقطع غصبًا عني، وأجبت بحماس لم يتناسب والدماء التي تسيل مني قائلاً:
“أحسن معاملة”
ثم قررتُ، في لحظة من تقدير خاطئ لكسب عطفهم، أن أضيف قسمًا زائفًا:
“على بالطلاق… والله العظيم”
لكن ما لم أكن أعرفه هو أن هذا القسم، الذي أخرجه لساني دون تفكير، سفتح عليّ باب جهنم جديدة. وبالفعل، ما إن صدرت الكلمات من فمي حتى انبرى أحدهم متسائلًا، وعيناه تلمعان وكانه عثر على كنز ثمين:
“يعني كمان متزوج وداسي مننا؟”
هنا صرتُ *أَعْطَسُ* وأَعْطَسُ، ولا أكاد أفيق من نوبةِ عَطَسٍ حتى أتصل بأُخرى أقوى من الأولى حتى أصبح *العَطَسُ* عالقًا بحلقي، وأنفي، وجهازي التنفسي، وكأنني لن أنفك منه. بل صرتُ ومن شدة ما صار يحدثه من فرقعة، أكاد أقفز بكل جسدي المنهار إلى أعلى، ثم إلى أعلى، بينما عيوني مفتوحة من أقصاها لأقصاها. أَعْطَسُ، ثم أقفز. أقفز مرةً أخرى *وأَعْطَسُ، متجاوزًا المستوى الذي قبله وكأني بمهرجٍ في سيركٍ مضحكٍ ومأساوي. وهكذا ظللت مواظبًا على العَطَس بالقفز حتى وصلت لمستوى قياسي لم أحسب عواقبه.
لقد مِت.
مِتُّ إثر الَعطَسَاتٍ المتلاحقة.
حدث ذلك، وأظنني، كنت معلقاً في الهواء، مثلي مثل أي عطسة من عطساتي ، قبل ان أتبخر. نعم، مات جسدي، لكنني شعرت أن روحي لا تزال معلقة في مكانٍ ما بين عطسة ضائعة وجسد يتبخر.