رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

ادفع أو اصمت”.. كيف حولت الحكومة السودانية العدالة إلى سلعة للأثرياء فقط؟ “

بقلم : المستشار: معاوية أبوالريش
في خطوة مثيرة للجدل تُعد الأولى من نوعها في تاريخ القضاء السوداني، أصدرت وزارة المالية السودانية مرسوما أطلقت عليه “الرسوم الموحدة لخدمات النيابة العامة للعام المالي 2025″، والذي فرض رسوماً باهظة على كل من يسعى للحصول على العدالة واسترداد حقوقه المشروعة. هذا القرار الذي جاء بموجب اتفاق بين وزارة المالية والنيابة العامة، والذي منع صراحة تخفيض أو إعفاء أي مواطن من هذه الرسوم مهما كانت ظروفه، أثار موجة عارمة من الغضب والاستياء في أوساط المواطنين والحقوقيين على حد سواء.
” مخالفة دستورية صارخة”
يأتي هذا المرسوم في تناقض صارخ مع النصوص الواضحة في الوثيقة الدستورية السودانية، التي تؤكد بصراحة أن العدالة مكفولة لجميع المواطنين دون استثناء، وأن المواطنين سواسية أمام القانون بلا تمييز. فكيف يمكن تحقيق هذا المبدأ الدستوري الأساسي عندما تصبح العدالة سلعة تُباع وتُشترى بثمن باهظ؟
إن الأنظمة الجزائية والجنائية في جميع أنحاء العالم تقوم على مبدأ أساسي واضح: أن محاربة الجريمة والبحث عن العدالة هو واجب على الدولة قبل أن يكون على المواطن، وأن المقاضاة الجنائية يجب أن تكون مجانية ومتاحة للجميع دون قيود مالية. هذا المبدأ ليس مجرد اختيار، بل ضرورة حتمية لضمان عدالة النظام القضائي وحماية حقوق الإنسان الأساسية.
” العدالة الانتقائية.. جريمة في حق الفقراء”
لقد حول هذا المرسوم العدالة السودانية إلى خدمة انتقائية، حيث أصبح بإمكان الأثرياء والقادرين مالياً فقط الوصول إليها، بينما يُحرم الضعفاء والمساكين من هذا الحق الأساسي. إن هذا التمييز الطبقي في الوصول للعدالة يُعد جريمة في حق شرائح واسعة من المجتمع السوداني، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها البلد.
المواطن السوداني البسيط الذي أنهكته الحرب الدائرة في البلاد والتي دخلت عامها الثالث، والذي فقد كل ما يملك من ممتلكات ومصادر دخل، كيف له أن يسدد هذه الرسوم الباهظة؟ وأين العدالة عندما يُحرم هذا المواطن من حقه الدستوري في طلب العدالة بسبب عجزه المالي؟
” تشجيع الجريمة وانتشار الفوضى”
إن فرض هذه الرسوم لن يؤدي فقط إلى حرمان الفقراء من العدالة، بل سيفتح الباب واسعاً أمام انتشار الجريمة بشكل مخيف. فعندما يعلم المجرمون أن ضحاياهم من الطبقات الفقيرة والمتوسطة لن يتمكنوا من اللجوء للنيابة العامة بسبب عجزهم عن دفع الرسوم، فإنهم سيجدون الضوء الأخضر لارتكاب المزيد من الجرائم دون خوف من المساءلة القانونية.
كما أن هذا الوضع قد يدفع بالبعض إلى محاولة تطبيق العدالة بأيديهم، بعيداً عن الجهات القضائية الرسمية، مما يخلق حالة من الفوضى وانتشار العنف المجتمعي وتآكل هيبة الدولة والقانون. إن العدالة الذاتية والثأر الشخصي سيصبحان البديل المتاح أمام من لا يستطيع دفع ثمن العدالة الرسمية، وهذا ما سيؤدي إلى انهيار النسيج الاجتماعي وسيادة حكم قانون الغاب.
“دوافع اقتصادية على حساب العدالة”
يبدو أن الحكومة السودانية، في ظل قلة الموارد والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، لجأت إلى هذا الحل المدمر لتغطية عجز الموازنة العامة والصرف على فاتورة الحرب المكلفة. إن استخدام العدالة كمصدر دخل للدولة يُعد انتهاكاً صارخاً لكل المبادئ الدستورية والحقوقية، ويضع السودان في مرتبة متدنية بين دول العالم في مجال حقوق الإنسان وسيادة القانون.
” أصوات الرفض ترتفع”
لقد لاقى هذا المرسوم المثير للجدل رفضاً واسعاً من قبل القانونيين والحقوقيين السودانيين، الذين اعتبروه مخالفاً لكل نصوص الوثيقة الدستورية وانتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان الأساسية. كما عبر المواطنون العاديون عن سخطهم الشديد من هذا القرار الذي يحرمهم من حق أساسي كفلته لهم الوثيقة الدستورية.
“تأثير على مستقبل السودان”
إن استمرار العمل بهذا المرسوم سيكون له تأثير كارثي على مستقبل السودان، حيث سيؤدي إلى: تعميق الفجوة الطبقية: فعندما تصبح العدالة حكراً على الأثرياء، فإن ذلك يعمق من الفجوة بين طبقات المجتمع ويزيد من حدة التوتر الاجتماعي.
تدهور الأمن العام: انتشار الجريمة وعدم معاقبة المجرمين بسبب عجز ضحاياهم عن دفع رسوم المقاضاة سيؤدي إلى تدهور خطير في الأمن العام.
فقدان الثقة في النظام القضائي: عندما يشعر المواطنون بأن العدالة ليست متاحة للجميع، فإنهم سيفقدون الثقة في النظام القضائي والدولة ككل.
تراجع مكانة السودان دولياً: هذا القرار سيضع السودان في موقف محرج أمام المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان.
” نداء عاجل للتراجع”
إن العدالة ليست سلعة تُباع في السوق، بل حق أساسي يجب أن يكون متاحاً لكل مواطن بغض النظر عن وضعه المالي أو الاجتماعي. لذلك، فإن الأمر يتطلب تدخلاً عاجلاً لإلغاء هذا المرسوم المدمر والعودة إلى المبادئ الدستورية الأساسية التي تكفل العدالة للجميع.
إن السودان، في هذه المرحلة الحساسة من تاريخه، بحاجة إلى بناء دولة القانون والمؤسسات، لا إلى تدميرها باسم الحاجة المالية. العدالة استثمار في مستقبل البلد واستقراره، وليست مجرد مصدر دخل سريع للخزينة العامة.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل ستستجيب الحكومة السودانية لأصوات الرفض المتصاعدة وتتراجع عن هذا القرار المدمر، أم أنها ستستمر في طريق تحويل العدالة إلى امتياز للأثرياء فقط؟ الجواب على هذا السؤال سيحدد مستقبل العدالة والقانون في السودان لسنوات قادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى