
الرؤية بالنسبة للفنان هي حلم يقظة واستبصار ، يشحذ المبدع طاقاته الذهنية التخيلية من أجل تفسيره علي صفحة لوحة تصويرية أو خامة تشكيلية آو نص أدبي شعري أو روائي أو نص درامي إو علي منصة مسرحية .
ولأنها حلم يقظة فلابد أن تكون بمثابة تصور علي شاشة اللاوعي ، والتصور جنين الصورة الذي يولد بمهارة الخبرة الإبداعية للفنان وفق مجال إبداعه .
ولأن مجالات الفن متعددة موهبة وخبرات نظرية وعملية ومتشعبة في مدارس ارتكزت علي نظريات تحفظ عليها نقاء موضوعاتها ، ومناهج تحسد بها تلك الموضوعات النظرية ؛ لذا اختلفت الرؤي ما بين حلم يقظة المخرج المسرحي والصورة التي انتهت إليها رؤية كاتب النص الذي توافرت طاقات إبداع المخرج المسرحي علي استعادته أو تفسيره أو تأويله أو تفكيكه نسقا وخطابا حاضر الإرسال والتلقي علي صفحة المنصة المسرحية ؛ أو حاضرا غائبا علي صفحات وسيط اتصالي .
ومن الملحوظات في هذا المجال أن تباين الرؤي في فن الإخراج المسرحي لا يحصر في اختلافه – بوصفه وليد حلم يقظة ذاتية – مبعثها تفاعلات ثقافة مخرج مسرحي – عن مخرج مسرحي آخر ، تصدي كلاهما لأخراج نص مسرحي بعينه في فترتين أو في لغتين مختلفتين ؛ ولكنها تتعدي ذلك عند التصدي لإخراج نص مسرحي شعري ، خاصة في حالة التصدي لإخراج نص مسرحي تعتمد لغة الحوار فيه علي الشعر العمودي الخليلي ، فضلا عن الصور الشعرية الذهنية المركبة التي يحتاج فك شفرتها من المتلقي إلي زمنين ؛ تسقط خلالهما من سمعه جملا أو عبارات من الأداء التمثيلي المتلاحق . وهي مشكلة ؛ صادفتني مخرجا لنص مسرحي شعري ، ولم أجد لها حلا *
وبالإضافة إلي بعض النصوص الشعرية التي تستلهم شخصيات أو وقائع تاريخية يكون علي المخرج فيها الموازنة بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الفنية مسرحيا .
وبالإضافة إلي ذلك تباين رؤي الإخراج ما بين الوعي الدرامي والجمالي و مدارس الإخراج وأسئلة التقنية المتباينة بينها ، فتلك مهام لابد من مراعاتها حال الشروع في وضع الرؤية الإخراجية لعرض مسرحي .
* ولأنها مسألة عويصة ؛ فقد اغتنمت فرصة مشاركتي في مؤتمر ( صلاح عبد الصبور إبداع دائم) بالمجلس الأعلي للثقافة ، وسألت المخرج المسرحي الآستاذ سعد أردش عن ( كيفية حل تلك الإشكالية ، خاصة وأنه سبق أن مثل دور – القاضي أبوعمر – في مسرحية صلاح عبد الصبور : مأساة الحلاج بالبرنامج الثقافي الإذاعي من إخراج البهاء طاهر ) لكنه – رحمه الله – راوغ ولم يعط إجابة قائلا : (( هذا موضوع عويص يا أبو الحسن يحتاج إلي جلسة أخري !! )) – .. ربما لأن المنصة كانت حاشدة إذ كانت تضم الأساتذة 🙁 فوزي فهمي – نبيل الألفي – جلال الشرقاوي – سعد أردش – البهاء طاهر )
* ** ويحضرني في مثل هذه الحالة موقف التباين بين مخرجين مصريين كبيرين هما الآستاذ كرم مطاوع والأستاذ حسين جمعة الذي كان مخرجا لمسرحية ( الإسكندر الأكبر ) من تأليف : د مصطفي محمود) علي المسرح الروماني التاريخي بمنطقة ( كوم الديكة بالأسكندرية ) كان الأول مخرجا للعرض وقام الثاني بتمثيل دور الإسكندر . وفي مشهد قتل الإسكندر لصديقه ( كليتوس ) علي إثر مشادة كلامية غاضبة ؛ رسم المخرج ( حسين جمعة ) مشهد القتل وفقا لما وجده في كتاب مدرسي ؛ يدرس مادة التاريخ ؛ متنثلا 🙁 صورة يخطف فيها الإسكندر حربة بيد جندي الي يمينه ويرشق بها عن بعد صدر كليتوس غير أن وعي المخرج الجمالي ؛ يستيقظ بداخل ( كرم مطاوع ) فيقفز من داخل ممثل دور الإسكندر ؛ ليتجسد في اعلي المخرج ؛ معترضا علي تصور زميله القدير : مخرج العرض ؛ ذلك التصور المستمد من صورة في كتاب مدرسي – صورة مستلهمة لطريقة وقوع الحادثة ، فإذا بالمخرج ( حسين جمعة ) بنحي نفسه ؛ قائلا “. وربني ح تخرجه ازاي أنت يا كرم. ؟! ”
ًوهنا يتهيأ كرم ممثلا باستلال سيفه من غمده ؛ فإذا بمجموعة القادة يحيطون به ؛ فيصبح فيهم ” هل أنا معتقل ؟!” فيتركونه ليتقدم بخطوات متزنة تجاه كليتوس ليطعنه الطعنة القاتلة .
* هذا التصور المعارض لتصور مشهد الحربة ؛ في مشهدية قتل الإسكندر لكليتوس ؛ يحقق الإثارة والتوتر وأفق التوقعات – جمالية التلقي إذ تحرك ضمير المتلقي ؛ وتثير تمنياته في ألا يقتله ؛ وتحقق أو تؤكد – احتمالية حدوث الفعل الدرامي وعدم حدوثه في آن – اذ هي مشهدية تمسرح نقيضة لتصور المخرج الأصلي للعرض ؛ في مشهدية تخلو من عنصر المباغتة ومن عنصر الاندهاش ؛ المجسدين لحالة التمسرح بديلا لمسرحة حسين جمعة لصورة الحدث استلهاما من أحد كتب التاريخ .
* التصور نواة الرؤية :
لا شك أن التصور هو نواة تكوين الصورة في عمل الفكر الإبداعي ، ولما كان عمل المخرج المسرحي هو عمل إبداعي من بدايته إلي نهايته ، لذا قام علي الخيال ، أي علي فن التعبير بالصورة المسرحية المركبة تركيبا حواريا لغويا وبصريا – أو بصريا حواريا عبر منظومة إيقاع الفكر في أداء حاضر بين ثنائية الإبداع والتلقي ؛ وهي ثنائية خطاب يتشارك فيه حس المبدع مع منظومة ظاهرية حدس المتلقي ، الأمر الذي يحسب له المخرج المسرحي حسابا في ما بعرف بالتصور أو رؤية إخراج النص المسرحي .
يقول المخرج الرائد الأستاذ نبيل الألفي :
” إذا كان علي أن أنهض بإخراج إحدي المسرحيات التي وافقت عليها ؛ فعلي أن أحتضنها كشئ عزيز ، وأعيد خلق عالمها داخل ذاتي قبل أن أشرع في اتخاذ أية خطوة نحو إخراجها ، وقد أدافع عنها عنها دفاعا لا يعرف التخاذل إذا تعرضت لهجوم لا يرتكز علي أساس سليم ”
ويضيف : “. ولأن المخرج هو العقل المدبر والبصيرة الواعية بالهدف الأخير الواجب تحقيقه من خلال العرض المسرحي ، فإنه بذلك يسير وفق برنامج عمل ممنهج ، فهو في البرنامج بخطط لملامح الأداء والخطوط العامة للتصميمات
وليس معني ذلك أن التمسرح مقيد بتصور المخرج ؛ وإلا صح إدعاء عدم وجود حالات تمسرح قبل ظهور فكرة الإخراج المسرحي وتبلورها !
وهذا غير صحيح ، و إلا أعتبرنا تكرار مشهدية ( المصيدة / جنزاجو) في معمار بنية الحدث في مسرحية شكسبير ( مأساة هاملت) خارج إطار التمسرح ، و حسبنا مشهدية معمار البنية الدرامية في برولوج مسرحية ( ليالي الحصاذ) للكاتب المصري محمود دياب ؛ حيث يحل الحمار متحدثا بلسان الراوي محل فلاحي القرية باعتبار ذلك خارج حوزة التمسرح ،
و لرأينا فنيات المسرح داخل المسرح عند بيرانديللو عملا مغايرا لأسلوب التمسرح ؛ ولاستبعدنا فنيات نظرية التغريب الملحمي عند برشت خارج حدود التمسرح ، وهذا غير صحيح بالمرة ؛ فاحتفالبة السامر في تشخيص شخصيات ( ليالي الحصاد ) لبعضهم بعضا عند محمود دياب هي في جوهر التمسرح ، والأمر نفسه بالقطع في مسر حية بيرانديللو ( ست شخصيات تبحث عن مؤلف) ُومسرحية ( لكل طريقته ) ، وهو كذلك في مشهديات متفرقة في مسرح توفيق الحكيم ، مثال ( معمار البنية المراوغة للحدث الدرامي في مسرحيتي ( السلطان الحائر) و ( شمس النهار ) وفي مسرحيتي ( الدنيا رواية هزلية ) و ( مجلس العدل) وفي عبثيتة الدرامية : ( ياطالع الشجرة) وفي تعادلية خلطة التمسرح مسرواية في مسرحية الورطة فهذ البني بني تمسرح أشبه بمياة رجراحة في حوزة التمسرح نجد ( الفرافير) و ( الجنس الثالث) ليوسف إدريس ، بينما تمثل ( جمهورية فرحات ) و ( بيت من لحم ) المحولتان من شعرية القصة القصيرة إلي شعرية التجنيس المسرحي – المسرحية – جالة مسرحة .
كذلك تضمنت جواز علي ورقة طلاق ومسرحية علي جناح التبريزي حالات تمسرح
شأن مشهدية التمسرح في ( مشهدية .. بين الفصلين) في مسرحية ( علي جناح التبريزي وتابعه قفة) لألفريد فرج ، ليس لكونها تطبيقا لفنيات : Enter lade التي عرفت في فترة من فترات العرض المسرحي الأوربي ، ولا لكونها حالة استعادة لتقليد ( بين الفصلين ) في عروض فرق مسرح العشرينيات المصري ، حيث كانت شائعة في بعض عروض مسرحنا المصري في عشرينيات و ثلاثينيات القرن العشرين ؛ بل لاشتباك مضمون ( علي جناح التبريزي وتابعه قفة ) مع مضمون خطاب مؤلفها الاشتراكي ألفريد فرح ؛ لكسب التأييد لفكرة اشتراكية ( الإدعاء ) التي تقنعت بقناع تأميمات ملكية وسائل الإنتاج وإدارتها بأهل الثقة في هيئة بيروقراطية حزبية . –
كانت مسرحية ( بين الفصلين / الجراب ) اذا حالة تمسرح حاملة لخطاب – مبتاتياترالي – كاشف لزيف زعم النظام الحاكم ؛ الرافع لشعار الاشتراكية – ، عن طريق محاولة الترويج لمبدأ ( كفاية الإنتاج ) في مقابل ( عدالة التوزيع) في ظل حكم ما عرف ب ( تحالف قوي الشعب العامل ) عن طريق إنتقاء ممثلين أفرادا من بين طبقات الشعب ( عمال – فلاحين – مثقفين – رأسماليين – عسكريين ) لا عن طريق – تحالف حقيقي بين أحزاب بعد تفكيك النظام الحزبي الوطني لعصر ما قبل يوليو ٥٢ –
إذا بمكننا القول إن التمسرح حالة من حالات ( لزوم مالا يلزم ) في عرض معني النص وفق فنيات الإخراج المترجم الذي يستعيد معني النص علي المنصة ، أو وفق فنيات الإخراج المفسر المنتج لمعني مواز لمعني النص علي المنصة ، – حالة المبتاتياتر – بين الفصلين – أو وفق فنيات الإخراج المؤول المنتج لمعان متعددة لمعني النص – علي نحو ما فعل مايرهولد في إخراجه لنص ( المفتش العام ) لجوجول –
أو وفق فنيات الإخراج التفكيكي لمعني النص ، علي نحو رؤية برشت التغريبية في إخراج عبثية صمويل بيكت الشهيرة ( في انتظار جودو) بترك الصعلوكين ( ستراجون وفلاديمير ) جالسين في العراء في حالة انتظار منعدم مع حركة عمل نشطة علي شاشة خلفية يسقط عليها شرائح صور لمزارع نشطة وجامعات ودروس ومصانع وعمال تعمل وعمارات تشيد وشوارع وقنوات تشق وتعبد ؛ مما جعل هذين الثعلوكين يبدوان غريبين.
عن دنيانا .
* الخاتمة : أثبتنا خلال هذا المبحث أن فنيات التمسرح ماثلة في النص المسرحي ، بما مثلنا له من أمثلة ونماذج من نصوص ومن عروض وتجارب مسرحية عالمية وعربية تمًثًل فيها المؤلف معني ما عبر خطابه ؛ وتمًثل المخرج
معني النص في داخله عبر تصور ما ليخرجه حياة نابضة في خليقة إبداعية من خلقه – ترجمة بأسلوب النص أو تفسيرا ، وترجمة أو تفكيكا بأسلوب مغاير لأيلول المؤلف وبفنيات تحمل بصمة اامبدع المسرحي نفسه كاتبا أو مخرجا .
والأمر نفسه بالقطع في مسر حية بيرانديللو ( ست شخصيات تبحث عن مؤلف) ُومسرحية ( لكل طريقته ) ، وهو كذلك في مشهديات متفرقة في مسرح توفيق الحكيم ، مثال ( معمار البنية المراوغة للحدث الدرامي في مسرحيتي ( السلطان الحائر) و ( شمس النهار ) وفي مسرحيتي ( الدنيا رواية هزلية ) و ( مجلس العدل) وفي عبثيتة الدرامية : ( ياطالع الشجرة) وفي تعادلية خلطة التمسرح مسرواية في مسرحية الورطة فهذ البني بني تمسرح أشبه بمياة رجراحة في حوزة التمسرح نجد ( الفرافير) و ( الجنس الثالث) ليوسف إدريس ، بينما تمثل ( جمهورية فرحات ) و ( بيت من لحم ) المحولتان من شعرية القصة القصيرة إلي شعرية التجنيس المسرحي – المسرحية – جالة مسرحة .