#السلطة القضائية السودانية واستمرار التسييس منذ 1989 حتى اليوم ومساوئ أدلجة واختراق القضاء كأداة قمع لا اداة عدالة…!!

بقلم: المستشار/#مهيد شبارقة
#حين كانت العدالة تتحدث بلسان السلطة:
لم يكن القضاء السوداني يومًا مؤسسة محصّنة من العبث السياسي لكن ما جرى له منذ 30 يونيو 1989 تجاوز حدود الفساد والضعف لمستوى التوظيف الكامل لخدمة مشروع سياسي بعينه أكتب اليوم لا كراوي عن تجربة قانونية بل كشاهد على زمن فقد فيه القاضي هيبته وفقدت العدالة معناها وصار الحكم يملى من مقر الأجهزة القمعية لا من منصة المحكمة.
لقد رأيت كما رأى كثيرون كيف تحولت القاعة المقدسة التي كانت رمزا للإنصاف إلى حجرة مظلمة تنطق بأحكام مدفوعة الأجر السياسي وأعترف أننا كنا شهودًا عاجزين أو شركاء صامتين أو حتى مبررين مكسوري الإرادة حين رأينا العدالة تغتال باسم (#المشروع الحضاري)
#اولا:من انقلاب 1989 لاختطاف السلطة القضائية كاملة.
جاء انقلاب ثلة الإنقاذ على خلفية شعارات دينية ووعود بتطبيق الشريعة غير أن أول ما فعله النظام الجديد كان استهداف القضاء فأكثر من خمسين قاضيا من انزه القضاء نقلوا للصالح العام خلال الأشهر الأولى من حكم البشير والترابي تحت ذرائع #ضعف الولاء أوعدم الانسجام مع الرؤية الإسلاموية للتنظيم فتذكّر القاضي المفصول /#حسن أحمد محمد صالح في مذكراته المنشورة على حلقات كيف استُدعي لمكتب ضابط في الأمن الوطني ليبلغ حينها بإنهاء خدمته القضائية دون اي توضيح…!!
لم يكن للقرار علاقة بالكفاءة أو بالنزاهة بل فقط لأني رفضتُ٥ الحكم على متهم حسب توجيه شفهي من مسؤول سياسي…!!!
فتم تعديل قانون السلطة القضائية ليلغي استقلال المجلس الأعلى للقضاء وينقل تبعيته مباشرة لرئيس الجمهورية وهكذا بدأ التمكين الحقيقي:
#قضاة يتم تعيينهم بترشيح من جهاز الأمن وترقيات تمنح على أساس الولاء السياسي لا الكفاءة ولا الخبرة فضاءة اكفاء فصلوا بينما قضاءة في زمن الغفلة تمت ترقيتهم لاعلى المناصب على سبيل الولاء فانتهى دور العدل وحل زمن الظلم…!!
#قانون النظام العام… تجريم الحياة اليومية
تحليل القانون:
تم سن قانون النظام العام لولاية الخرطوم عام 1996 وامتد عمليا إلى معظم ولايات السودان عبر سلطات الشرطة فالقانون يمنح سلطات مطلقة لضباط الشرطة لاعتقال أي شخص يُشتبه في #خروجه عن الآداب العامة دون تعريف صريح وواضح لهذا المصطلح الفضفاض مما جعلها وسيلة ضغط لكل مخالف لمشروعهم…!!
فالمادة 152 مثلًا تنص على تجريم (#الزي الفاضح أو المخل بالآداب العامة وتطبق على كل مواطن بعيدا عن معاقبة من يستوردوا هذا الزي…!!
#حين تتلوّن العدالة بلون السياسة:
ففي البلدان التي ترزح تحت نير الأنظمة السلطوية يتحوّل القضاء من حارس للعدالة إلى أداة قمع ومن منصة لإنصاف المظلومين إلى واجهة لتبرير المظالم ولسوء الحظ فإن التجربة السودانية منذ انقلاب 1989 بقيادة الجبهة الإسلامية تقدّم واحدة من أكثر النماذج وضوحا لما يمكن أن تؤول إليه السلطة القضائية حين تخترق، وتؤدلج وتفرّغ من مضمونها ولا أقول هذا كتحليل مجرد، بل كتجربة عايشناها كجزء من شعبٍ ومحامين رأؤ قضاةً يقسمون على الحياد في الصباح ثم يُوقعون أوامر الإعدام في المساء وفق مزاج السلطة لا انفاذ روح القانون..!!
ففي هذا المقال أعترف بأننا كمجتمع وكنخب وكضحايا شاركنا بصمتنا في جريمة اغتيال استقلال القضاء أو على الأقل سهّلنا ارتكابها.
#االقضاء في عهد الإنقاذ… (#حين تصبح الشريعة غطاءً للاستبداد..!!)
منذ اليوم الأول لانقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989شرعت السلطة الجديدة في إعادة تشكيل المؤسسات بما يضمن ولاءها التام. وكان القضاء على رأس أولويات مشروع #التمكين فتمّ فصل العشرات من القضاة المستقلين واستبدالهم بعناصر موالية تماما وبدأت عملية إحلال وإبدال شاملة داخل الأجهزة العدلية فتحوّلت المحاكم لساحات تنفيذ لـ”#المشروع الحضاري وأُلبِس القانون لباسًا عقائديًا جديدا، حيث أُعيدت صياغة القوانين لتتماشى مع رؤية أيديولوجية ضيّقة. فشهدنا تطبيق الحدود في الشوارع العام على البسطاء وتركو السادة ورعاياهم ومحاكمات صورية لمعارضين سياسيين بل وحالات إعدام لمجرد الانتماء الفكري وتم إنشاء محاكم الطوارئ ومحاكم الأمن وتوسيع صلاحيات جهاز الأمن والمخابرات الوطني لتعلو سلطته على القضاة أنفسهم..!! وهكذا صار القاضي يتلقى التوجيهات من الجهاز التنفيذي ويُكتب الحكم في دهاليز السياسة لا في قاعات المحكمة…!!
#ثانيًا: تطويع القوانين وسَنّ تشريعات تخدم السلطان:
لم تكتفِ السلطة بتدجين القضاة بل عمدت إلى سنّ قوانين تصادر الحقوق الأساسية وتفرغ فكرة العدالة من معناها من قانون النظام العام إلى قوانين الأمن الوطني والجرائم المعلوماتية وكان الهدف واحدًا: #تجريم الحياة اليومية وتمكين الدولة العميقة من التحكم في رقاب الناس…!!!
#في هذا السياق، ظهرت قضايا كثيرة صادمة:
مثل جلد النساء في الطرقات أحكام بالإعدام على معارضين دون إجراءات قانونية سليمة ومحاكمات تعسفية لطلاب وصحفيين ونشطاء في محاكم غير مختصة.
فكانت تلك السنوات بمثابة #عصر رعب قانوني عاشه السودانيون باسم العدالة بينما العدالة التي نعرفها بريئة من كل ذلك.
#ثالثًا: ما بعد الثورة… هل تغيّر شيء؟
فحين سقط نظام البشير في أبريل 2019 تنفّس الناس الصعداء وتطلّع الجميع إلى إصلاح جذري في المؤسسات العدلية ولكن سرعان ما اصطدم الحلم بالواقع فالرؤوس التي أدارت القضاء لعقود لاتزال في مواقعها والوجوه التي نطقت بأحكام الاستبداد لم تُحاسب ولم تعزل ومن عزل ارجعه انقلابهم الصف الثاني من جنرالات التنظيم…!!
#المبادرات لإصلاح السلطة القضائية تعثرت والتجاذبات بين المكوّنات المدنية والعسكرية عرقلت مساعي إعادة الهيكلة بل تحولت العدالة الانتقالية إلى شعار سياسي لا أكثر وعادت ذات التدخلات في شؤون القضاء تحت مسميات مختلفة بل الأخطر أن أطرافا من #قوى الثورة نفسها وقعت في فخ التسييس وحاولت أن تجعل من القضاء أداة تصفية حسابات لا ميدانا للعدالة المتجردة.
#رابعًا: الاعتراف المرّ… نحن أيضًا ساهمنا في اختطاف العدالة:
كثيرٌ منا، كنا شهود عيان على هذا التسييس بعضنا صمتَ بدافع الخوف وبعضنا تواطأ بحثًا عن مصالح شخصية والبعض انسحب من الساحة واكتفى بالتذمر حتى حين قامت الثورة لم تكن أولوياتنا واضحة:
أردنا محاسبة رموز النظام لكننا لم نضع ضمانات لحماية القضاة من التغول الجديد..!!
وحدث ذلك حين غابت النقاشات الجادة حول العدالة الانتقالية وتاهت النخبة بين شعارات القصاص ونزاعات الهيمنة على مؤسسات الدولة وبدلًا من تحييد القضاء حاول كل طرف توجيهه لصالحه فدخلنا مجددًا في دورة استغلال القضاء كذراع سياسي لا كركن رابع للعدالة.
#خامسًا: نحو قضاء مستقل… لا بديل عن الإصلاح الجذري
إذا أردنا مستقبلًا مختلفا فلا بد من ثورة داخل المؤسسة القضائية نفسها قبل أن نطالبها بإصدار الأحكام المنصفة وهذا يشمل:
١/#تطهير القضاء من عناصر التمكين:
يجب غربلة السلك القضائي ومراجعة ملفات التوظيف والترقيات التي تمت وفق الولاءات السياسية وإعادة الاعتبار للمبعدين من القضاة المهنيين.
٢/#سنّ قانون جديد للسلطة القضائية:
يُعيد لها استقلالها المالي والإداري ويمنع تدخل الجهاز التنفيذي في عملها ويعزّز من دور مجلس القضاء العالي كمؤسسة مستقلة لا خاضعة.
٣/#إصلاح كليات القانون ونظم التدريب:
فلضمان تخريج قضاة ومحامين يضعون سيادة القانون فوق أي انتماء سياسي أو عقائدي.
٤/#إرساء ثقافة مساءلة القضاة:
يجب أن يكون هناك جهاز رقابي حقيقي مستقل يراجع أداء القضاة دون تهديد لاستقلالهم ولكن أيضا دون حصانة مطلقة تفتح الباب للفساد.
#خاتمة: هل ما زال للعدالة مكان في السودان..؟
تاريخ القضاء السوداني ليس كله مظلما فقد شهدت البلاد قضاة أفذاذًا سجّلوا مواقف مشرفة في وجه الاستبداد ولكن ما بين 1989 واليوم ضاعت البوصلة وتم استغلال القضاء في إدامة القهر فإن اعترافنا بهذه المأساة هو الخطوة الأولى لإصلاحها فليس المطلوب محاسبة الماضي فقط بل منع تكراره بأي صورة جديدة فنحن نريد قضاءً يقف على مسافة واحدة من الجميع ويخضع للقانون لا للأهواء ويعيد بناء ثقة الشعب في العدالة ولعل هذا الاعتراف المتأخر يُساهم في فتح بابٍ للحوار حول إصلاحٍ جاد وحول قضاءٍ لا يُستعمل ولا يُشترى بل يُحترم.