رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

” البارحونا وراحوا ” – عادل عسوم

(تقتحمني) هذه الأغنية البديعة كلما طالني ألم الفقد لأحد الأحباب، ولعلها أضحت أكثر لزوما منذ أن طالتنا -ومافتئت- غاشية هذا التمرد ومن خلفه من خونة هذا الوطن والكائدين له فآذوا الناس حيث ازداد الفقد وتكاثفت على أهل السودان الأحزان، أسأل الله ان ينصر الجيش وكل من نذر نفسه للقتال معه من أشراف هذا السودان ويكتب الخلاص.
كلمات هذه الأغنية تشي بأن شاعرها (علي شبيكة) قد أفاء بكلماتها بين يدي سطوة حزن غامر على فقد عظيم، ولا أعلم الكثير عن تفاصيل تأليف القصيدة ولاقصتها، لكن أخبرني صديق بأنها مرثية من علي شبيكة لوالدته رحمها الله، وعلى الرغم من احتفائي -على الأغلب- بالقصائد الفصيحة في عوالم غنائنا السوداني الجميل؛ إلاّ إن هذه الأغنية استوقفتني ضمن أخريات لإجادة انتقاء كلماتها ولحسن توظيف معانيها إضافة إلى اللحن القشيب (الحزين) الذي اختاره لها الراحل السني الضويي.
(وَاللّهْ وَحّدوا بينا)…
استفتاحها هذا -على الرغم من غرابته بعض الشئ- إلا إن وقع كلمة وحدوا بينا تألفه الأذن بيسر ورفق، وهو غير مطروق في لهجة الوسط السوداني كثيرا.
أما الشطر الثاني من بيت الاستفتاح:
(البارحونا وراحوا)
فهو من الجمال بمكان، فقد أبدع الشاعر ووفق حقا وهو ينتقي مفردة (البارحونا) بدلا عن الفارقونا، لما فيها من وصلٌ بال(تبريح) نتاج الفراق، ثم إنها تتسق لغة وسياقا مع مفردة و(راحوا) فكأن الحاء في الكلمتين يدل على وحيح يعبر عن بكاء الدواخل وحزنها.
(شالوا من وادينا بهجتو وافراحو).
الوديان عادة تكون مستودعا للأمواه والخضرة، فالمطر يتجمع في الوديان والتُرَد، والأنهار لاتجري إلا في أخفض البقاع من استواء الأرض، لذلك ترتهن بها البهجة، ويتغشاها الجمال الباعث للفرح، وفي ذلك قيل بأن الجمال حيث الماء والخضرة والوجه الحسن.
وللنفس واديها الذي يختزن بهجة وأفراح حراكها الحياتي شخوصا ومواقف وذكريات، اولئك المبارحون لدنيانا يأخذون معهم -من ودياننا- البهجة والفرح، لتحل مكانه سُدومُ الأحزان ضبابا وأغبرة.
(وراحت الأفراح
وقلبي عاش لجراحو).
والجراحات العهد بها الحؤول الهدأة وراحة البال، وتبك الأنسنة بَكّاً فلا تجد لها منسربا إلى القلوب والوجدان، ولعل في ذلك تماه مع بيت الشعر العربي:
وما لجُرح بميتٍ إيلام.
يحكي الشاعر عن نظرة حزينة كانت السبب في جراح قلبه كلما طاف به خيال وصورة المبارح الحبيب…
(نظرة باكية حزينة
كان وراها ودارو).
والعيون منذ ازلها مكمن للحزن والألم، وما أقسى ذكرى الأعين الملأى بالدموع…
ويترى جمال القصيدة إلى أن يختمها الشاعر بطباق وجناس بديع وهو يقول:
(والعيون لو رادو
مابعرفو يدارو)
إنه ابداع لم اجده إلا في قلة من نصوص أغانينا، فيه تبديل بديع في ترتيب احرف كلمتي (رادو) و (دارو)…
قيل بأن لحن هذه الأغنية القشيب قد جاد به الراحل السني الضوئي -أصلا- لأغنية أخرى عندما كان يعكف على التلحين فقط وما كان قد تفرغ للأداء الغنائي مع رفيقه الراحل ابو دية، وهي أغنية الراحل زيدان ابراهيم (معذرة) التي كتب كلماتها الشاعر كباشي حسونة والتي يقول مطلعها:
ياما بقيت حيران
ياما فشل ظني
وكل الحصل ياحبيبي
والله ما مني.
وهب السني الضوي هذا اللحن لكلمات معذرة؛ والتي كان يفترض أن يغنيها الراحل علي إبراهيم اللحو، لكن وقعت كلمات معذرة في يد الملحن أحمد زاهر، فلحنها باللحن الذي غناها به زيدان إبراهيم، إذ وجدها اللحو لاتتناسب مع أسلوب أدائه، ولكن بقي اللحن في ذاكرة -إبن نوري- الراحل السني الضويي فألبسه لكلمات علي شبيكة البارحونا وراحوا، وخرج هذا العمل الفني بكامل بهائه وبحزنه النبيل.
هذه الماتعة -الحزينة- تسوقني سوقا إلى عوالم لايعلم مداها وفضاءاتها إلا الله، وقد وجدت لها تسجيلا متفردا في برنامج اغاني واغاني يتشارك في ادائها عاصم البنا وأفراح عصام وعصام محمد نور، يومها بكى السني الضويي رحمه الله فأبكى كل من شاهد تلك الحلقة، فقد أدى الشباب الأغنية بتناغم صوتي بديع مابين فحولة صوت عاصم البنا وتنغيم أفراح عصام، وصدق من قال بأن المكان إن لم يؤنث لايعول عليه…
إليكم كلمات الأغنية:
والله وحدو بينا
البارحونا وراحو
شالو من وادينا بهجتو وافراحو
بي الكتير ياحليلوم
يا حليل الراحو
طال نواك وانا قلبي
باكي ليلو وصباحو
وفي الضياع والحسره
السنين كم راحو
وراحت الافراح وقلبي عاش لي جراحو
مين يقول لي فؤادي روح زي راحو
انا قلبي اتصبر
لمن تعب صبارو
نظرة باكيه حزينه كان وراها ودارو
يوم رحلتا وشلتا
بهجتو وانوارو
لا ارتويت من عطفو
لي القليب الصادق
كنت نبعو الدارو
كنت ليهو حبيبو وكنت اهلو ودارو
فضحنّي عيوني وكشفن اسرارو
والعيون لو رادو مابعرفو ايدارو
العيون لو رادو كيف يعرفو يدارو
adilassoom@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى