رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

“هديل العشق النوبي: دراسة تحليلية لقصيدة “اعطف على ياريم”

بقلم : معاوية أبوالريش
اعطف على ياريم
كلمات: صالح عبد السيد أبو صلاح
ألحان وغناء: كرومة
اعطف على ياريم
يا نافر الغزلان
خصرك رقيق وعلى
قلبك حجر ما لان
احسب دقائق الليل
انا والنجم زملان
تابع هواك ومجافى
الاهل و الخلان
ياالعالى صدرك
ومالبو ضميرك الهزلان
لو عينى تنظر خدك
ومت ما زعلان
انا ياجميل اهواك
فعلا وقول لسان
بالنغمة تسكرنى
بالنظرة والميسان
فادع رجح خصرك
ولسيف لحاظك سان
انا يا مدلل قصدى
من الحسن احسان
يا اكحل العينين
يا ناير الاوجان
لحظك يشيل ويريع
قلب الانس والجان
شفنا البدور تسرج
من بسمتك سرجان
ما بين بياض الدر
وخضرة المرجان
يا اية الحسن
وريحانة السودان
غاية محاسن الجيل
فى كافة البلدان
ساكن بشاطى النيل
وبداخل الابدان
فى حارة فيها
مناظر جنة الولدان
تُعد قصيدة “اعطف على ياريم” إحدى روائع الشعر الغنائي السوداني التي استطاعت أن تجمع بين جمال اللغة وعمق المشاعر وصدق التجربة العاطفية. كتبها الشاعر صالح عبد السيد أبو صلاح، ولحنها وغناها الفنان كرومة، لتصبح واحدة من أهم الأغنيات التي تعبر عن الثقافة النوبية والسودانية وتصور واقع الحب بكل تجلياته وآلامه.
” البناء اللغوي والأسلوبي”
تتميز القصيدة بلغتها الفصيحة الممزوجة باللهجة السودانية النوبية، مما أضفى عليها خصوصية ثقافية وجمالية فريدة. يستخدم الشاعر مفردات تنتمي إلى التراث المحلي مثل “ياريم” و”المَيسان” و”الهزلان”، ويمزجها بألفاظ فصيحة ذات دلالات عميقة.
يلفت النظر استخدام الشاعر لأسلوب النداء المتكرر: “يا نافر الغزلان”، “يا العالي صدرك”، “يا جميل”، “يا مدلل”، “يا أكحل العينين”. هذا الأسلوب يعكس حالة الشوق والتوسل التي يعيشها الشاعر، ويخلق إيقاعاً متناغماً يتناسب مع طبيعة النص الغنائي.
كما يعتمد الشاعر على التشبيهات والاستعارات المستمدة من البيئة المحلية، فيشبه المحبوب بالغزال في نفوره، ويصف عينيه بالسيف في تأثيرهما، كما يشبه بسمته بالبدور المضيئة، مما يعكس براعة في توظيف الصور البلاغية بما يتلاءم مع المضمون العاطفي.
” المضمون العاطفي”
تتمحور القصيدة حول تجربة عشق صادقة تتسم بالمعاناة والانتظار والإخلاص. فالشاعر يعاني من صد الحبيب وقسوته رغم رقة مظهره، كما يتضح في قوله:
“خصرك رقيق وعلى
قلبك حجر ما لان”
هذا التناقض بين اللين الظاهري والقسوة الباطنية يشكل محوراً أساسياً في بناء النص. كما يصور الشاعر معاناته في الانتظار الطويل من خلال قوله:
” احسب دقائق الليل
انا والنجم زملان”
وهنا يبرز مشهد الوحدة والأرق والترقب الذي يعيشه العاشق، حتى صار النجم رفيقه الوحيد في ليله الطويل.
يكشف النص عن تضحية العاشق وتنازله عن كل شيء في سبيل محبوبه، بما في ذلك علاقاته الاجتماعية:
” تابع هواك ومجافى
الاهل و الخلان”
” التصوير الجمالي للمحبوب”
يبرع الشاعر في رسم صورة متكاملة لجمال المحبوب، مستخدماً مفردات حسية ومعنوية تلامس مختلف الحواس. فهو يتغزل بالعيون الكحيلة، والخدود، والخصر الرشيق، والبسمة المضيئة، ويصل به الوصف إلى مرتبة الإعجاز حين يقول:
“يا اية الحسن
وريحانة السودان”
كما يصف تأثير جمال المحبوب وسطوته ليس على البشر فحسب، بل حتى على عالم الجن:
” لحظك يشيل ويريع
قلب الانس والجان”
وهذا يعكس مبالغة شعرية تقليدية في وصف قوة تأثير جمال المحبوب.
“البعد المكاني والانتماء الوطني”
تتجلى في القصيدة ملامح الانتماء المكاني والوطني بوضوح، فالمحبوب هو:
“ساكن بشاطى النيل
وبداخل الابدان”
وهو أيضاً:
” ريحانة السودان
غاية محاسن الجيل
فى كافة البلدان”
هذا الربط بين الحبيب والمكان (النيل والسودان) يكشف عن بعد وطني في القصيدة، حيث يتحول المحبوب إلى رمز للوطن وجماله وخصوصيته الثقافية.
“الإيقاع والموسيقى الشعرية”
تتميز القصيدة بموسيقى داخلية نابعة من تناغم الألفاظ واتساق الصور، إضافة إلى الموسيقى الخارجية المتمثلة في نظام القافية المتكررة (ان) التي تظهر في نهاية كل بيتين متتاليين، مما يخلق إيقاعاً منتظماً يشبه النَفَس الغنائي المتدفق.
ساهم هذا الإيقاع المنتظم في جعل القصيدة صالحة للتلحين والغناء، وقد أضاف أداء الفنان كرومة بعداً جمالياً آخر للنص من خلال تطويع اللحن والصوت لإبراز دلالات النص ومضامينه العاطفية.
” الأبعاد الثقافية والاجتماعية”
تقدم القصيدة صورة واضحة للبيئة النوبية السودانية من خلال توظيف مفردات وصور مستمدة من هذه البيئة. كما تعكس طبيعة العلاقات العاطفية في المجتمع السوداني التقليدي وما يكتنفها من صعوبات ومعاناة، خاصة فيما يتعلق بالبعد الاجتماعي للحب:
” تابع هواك ومجافى
الاهل و الخلان”
وهذا يشير إلى تأثير العادات والتقاليد في مسار العلاقات العاطفية وما تفرضه من قيود وتحديات.
تمثل قصيدة “اعطف على ياريم” نموذجاً رائعاً للشعر الغنائي السوداني الذي يجمع بين عمق التجربة العاطفية وجمال الصياغة اللغوية والخصوصية الثقافية. استطاع الشاعر صالح عبد السيد أبو صلاح أن يعبر عن تجربة عاطفية إنسانية بلغة شعرية مفعمة بالصور والدلالات، كما نجح الفنان كرومة في نقل هذه التجربة إلى المتلقي من خلال لحن وأداء يتناسبان مع روح النص وأبعاده الدلالية.
وتبقى هذه القصيدة شاهدة على ثراء التراث الشعري والغنائي السوداني، بما تحمله من أبعاد جمالية وثقافية واجتماعية تعكس هوية المجتمع السوداني وخصوصيته الثقافية والإبداعية.

زر الذهاب إلى الأعلى