الأعمدة

من تجليات الغضب: الضمائر والأفعال في اللغة العربية!

هل نتحدث “العربية” في العواصم العربية ؟ لا يهم ، الأهم أن نفكر باللغة العربية عندما يحوطنا الخطر.

حرب غزة كشفت ، من ضمن ما كشفت ، أن غالبية الجماهير، من المحيط إلى الخليج ، تتحدث وتفكر بـ”العربية”، أما حكوماتها ، فتخاطبنا بالعربية (بتاخدنا على قد عقلنا) في الأمور المتعلقة بالحقوق والدم ، وتفكر بالإنجليزية و الفرنسية ، عندما تتفاوض وتتحدث مع الإدارات الحاكمة في واشنطن ولندن وباريس.

وإذا” كان البعاد يعلم الجفا” كما نقول في الأمثال، فقد بدا هذا الفراق بين “اللسان والتفكير” وكأنه “فالق/عرضي في جيولوجيا الثقافة العربية” يهدد دائما باهتزاز ثوابتها وأعرافاها الإنسانية، ما يعرض اللغة ذاتها إلى سقوط وتآكل حوافها وتخومها.. وهو ما حدث بالفعل لـ “ضمائر” اللغة ، بقوة السلطة والثروة ،  فأصبح “ضمير المتكلم” أقوى الضمائر وبإمكانه أن ينوب عن “ضمير المخاطب” بل وينفيه ويحوله إلى “ضمير الغائب”.

في صلب اللغة ، يمكن اعتبار “الأفعال” أسلاكا زمنية تعيننا في ترتيب وتنسيق سردياتنا ومحادثاتنا ، لتشكيل جمل وتعبيرات منطقية عن الزمن سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، لكنها ـ في العربية ـ  تشابكت فيما بينها بسبب الاهتزازات الجيولوجية في االثقافة العربية، وهيمنة “ضمير المتكلم” على كل الضمائر ، وبات من الشائع استخدام “فعل الماضي” للحديث عن الفعل “المضارع” ، وبدا العالم العربي (وفي القلب منه النخبة) بلسانه “الفصيح” ، وعقله “النضيح” وكأنه يخطو بأقدامه في القرن الحادي والعشرين ، بينما رأسه تتجه إلى الوراء ، تنظر بعيدا إلى ما يزيد عن الألف عام ، وبالكاد تنظر تحت قدميها ، في العقد الثاني من هذا القرن.

نبدأ باالضمائر :

ـ ضمير “المتكلم” ، يحتكره القاده العرب ، جميعهم يطلبون الوقف الفورى لإطلاق االنار ، ولا يستخدموا أوراق الضغط المتعددة لديهم ، للدفع في هذا الاتجاه الذي تنادي به الجماهير العربية والقطاع الأكبر من نخبتها المتعلمة .. لم ينعقد برلمان عربي واحد لبحث سبل الضغط على أمريكا ، بما لديه من أوراق قوة في بلده ، وبدا الغالبية الساحقه من أعضاء البرلمانات العربية (النخب) يفوضون القادة والزعماء ، في تقرير مصير الأمة ..حقائق “الحالة” العربية تؤكد إن لديها “مؤسسات دولة” بلا أدوار حقيقية، عندما يتعلق االأمر بالمصير والمستقبل، وأن الحياة هنا، في أوطاننا، تبدأ وتنتهي عند الحاكم .. هو الذي يحتكر الحكمة والوطنية.. هو المتكلم والمخاطب في آن ، ولا مانع أن يحل محل “الغائب”.

الأفعال:

ـ يستخدم بلينكن ، طوال زيارته الأربع إلى المنطقة، “فعل الأمر” عند الحديث عن زمن “الحاضر”، ويضغط على العرب للابتعاد عن  الخطوط الإسرائيلية الحمراء المتعلقة بإيقاف الحرب، والقضاء على المقاومة الفلسطينية، ومواصلة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني .. أما القادة ، لا تتجاوز مطالبهم ، ملفات إطلاق سراح المحتجزين والأسرى، إدخال المساعدات الإنسانية بوتيرة أسرع ، وشوية رحمة .. صحيح أن مصر وضعت خطا أحمر على حدودها رافضة بوضوح خطة التهجير القسري لأهل غزة، إلا أن ذلك لا يمنع المذابح اليومية لأهلنا في فلسطين المحتلة ، لا توجد أوراق قوة لدينا لرسم خطوط حمراء أخرى غير تلك التي رسمناها في الشريط الحدودى لمصر مع غزة، تساعدنا في أيقاف عجلة القتل والتدمير والتخريب الإسرائيلية.

ـ ليس بوسع مصر أن تفعل شيئا أمام الخلل الهائل في موازين القوى بين العرب وإسرائيل والغرب، خصوصا وهى تعاني خللا في ميزان المدفوعات ، بسبب الديون وفوائدها وخدمتها، ما جعل العجز في الموازنة االعامة يرتفع إلى 455.8 مليار جنيه خلال الثلاثة أشهر الأولى من 2023-2024 كما تشير أرقام وزارة المالية ..إلى جانب خطة ابتزاز، لا يصح استبعادها من الحسابات، بمياه النيل، من أجل المساومة لاحقا على ما تطلبه إسرائيل من مصر على الحدود مع غزة.

الضمائر” في اللغة تتداخل وتتوحد ، و”الأفعال” في السياسة حائرة وتتمايل بين الماضي والمضارع والصحيح ، وبين الفعل” المعتل”.

استسمحكم ، فما سبق ، مجرد واحدة من تجليات الغضب.. ليس لدي سوى الغضب!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى