الأعمدة

رؤى متجددة : أبشر رفاي / حكمة جراي .. السودانيون جيهو لنا الجري لأن الجري قبال الشوف رجالة وبعده خوف

من طرائف القصص الشعبية في قديم الزمان زمن إستشراء فوضى حروبات الجهل والأطماع البشرية يقال أن اهل قرية ما قد أجمعوا على وسيلة محددة تقيهم شر تلك الحروب وهي وسيلة الهروب الجماعي ذات اليمين وذات الشمال حسب أتجاهات العدو ، حيث تشير الرواية بأن أحد أهالي القرية من الذين آمنوا بنجاعة الوسيلة لم ينافسه أحد في المرتبة الأولي ( جري ) حيث ظل محتفظا بالدرجة بمسافة بعيدة عن أقرب منافسية بشتى أنواع الجري ومن أنواعه – جري دقاق وجري نجيض وجري كسكاس للخلف ، وجري أم كلابية جرى يحاكي جري الكلاب على أربع والفززان والتعرد وجرى غزالة جاوزت وجري نعام زاغ وجري زراف جفل وإلى آخر أنواع الجري وصور التعرد التي تختلف مسمياتها بإختلاف تنوع الثقافات واللغات واللهجات وكذلك للجري مسميات في شوارع المدينة تعرف (بالردونق ) مثل قده وفتح وكبرا بالباب الورا وإتفكفك وكب الزوغة وإتخارج وعمل رايح ومن دلع اللغة العربية للجري يقال إطلق ساقيه للريح وفي الإنجليزية (رابت فاست إسكيب) . وفي ذات مرة من المرات والعهدة للراوي قيل لأهل تلك القرية العدو آت من الجهة الفلانية فكان صاحبنا كعادته في المقدمة فقيل له عفوا العدو في ذات الإتجاه فعاد مسرعا في الإتجاه المعاكس ثم قال له آخر المعلومة خطأ ، عندها وقف صاحبنا غاضبا بعد أن وضع يده على وسطه قائلا يا أهلنا من فضلكم جيهو لنا الجري ماتخلونا نتجارى ساي ساكت في الفاضي . القصة جديرة بأن تسقط دروسها ومعانيها وتجربتها على طبيعة البعد التشخيصي الحقيقي لقضيتنا وأزمتنا الوطنية تشخيص قبل الحرب وفي ظلها حتى لايشخص كل واحد بطريقته الخاصة ويقدم الوصفات العلاجية الكارثية . وفي سياق تشخيص قضيتنا الوطنية بأبعادها التاريخية والراهن السياسي الإقتتالي ، قلنا مرارا وتكرارا ومن سنين طويلة وبالحرف الواحد لو يسمع لنا القول على أهميته قلنا بأن قضيتنا الوطنية التي تمظهرت اليوم في الحرب الصفرية المميتة التي طالت الوطن والمواطن والدولة ، قلنا القضية قضية بنيوية بالأساس ، وليست قضية بينية بين زيد وعبيد وعمر وجهة وجهة وتوجه وتوجه مضاد ، كما إرادت لذلك تقليلا وتضليلا وتعمية سياسية منذ الإستقلال قوانا السياسية والحزبية الإيدلوجية بالذات لتجعل منها مجرد قضية بينية تنشأ في العادة السياسية بين مرحلة ومرحلة وتوجه وتوجه مضاد ، في حين أنها عكس ذلك تماما ، خطورة التشخيص البيني الخاطئ للقضية حررت على أساسه الوصفات العلاجية للقضية والأزمة فصار العلاج في إتجاه والداء في إتجاه والمرض يستفحل والمريض يدفع ثمن المعاناة وهنا المريض هو الوطن والمواطن والدولة ، فالتشخيص الخاطئ يقصد به جملة التدابير والترتيبات المرجعية التي في سياقها وميثاقها ومساقها الإجتماعي والسياسي والتنظيمي والإداري والإقتصادي والدستوري الإستراتيجي تم بناء دولتنا الوطنية الحديثة . فالتشخيص الحقيقي لقضيتنا الوطنية ، هي قضية بنيوية تاريخية تراكمية ناتجة عن تدابير سياسية تاريخية إستراتيجية مقصودة وغير مقصودة وعن أطماع سياسية إجتماعية نخبوية منعدمة الوعي الإجتماعي والسياسي والإنساني الإحاطي وأساسيات التربية والوطنية الأخلاقية الدستورية المسئولة ، حيث تشير نتائج التشخيص البنيوي التراكمي إلى سلسلة الأبعاد الإطارية والإضطرادية التالية :- البعد البنيوي الاول طبيعة وتركيبة المجتمع والشخصية السودانية ومدى رغبتها وقدرتها وإستعدادها الفطري والفكري للتكيف مع ذاتها وعمقها ومحيطها بما يجعلها تسعى وتعمل بصدق وتجرد بعيد عن عصبياتها المعلنة والمبطنة تجاه الآخر تسعى للعمل على تجسير وتوظيف منظومة إنتماءاتها الفطرية كالعرقية وأولاد الراجل الواحد والعشيرة والقبيلة والجهة والتوجهات وممارساتها المصاحبة تجسيرها نحو رحابة منظومة الإنتماءات الفكرية الأجتماعية والإنسانية الحضارية الواسعة ، مثل إتاحات الترقية الإجتماعية والوطنية والإخاء في الله وفي الإنسانية هذا برأينا هو الاساس المتين الذي تبنى عليه المجتمعات والشعوب المتحضرة والدولة العصرية المتقدمة دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات بعيدا عن كافة صور التمييز المعلن والمبطن تمييز على أساس الدين والعرق واللون والشكل والدم والجهة والنوع وأساطير الأولين وروياتهم المثيرة للسخرية والجدل ، وأساطيل وسلطان الآخرين وآراءهم المتشعبة .
للأسف الشديد نحن عبر التاريخ في سياق النقد الذاتي نجيد ونبالغ في التحدث عن القيم الإنسانية والرسالية والحضارية بصورة لسانية تكاد تنافس الأنبياء والرسل والصحابة الكرام أما ميزان مدفوعات التطبيقات والأفعال يرجح كفة الفشل تماما . فشخصيتنا السودانية الإجتماعية والسياسية ولا نقل هنا الوطنية ثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنها لا تستجيب بصورة فعلية عملية نافذة إلا لتوجيهات وموجهات شخصيتنا العرفية التقليدية ، وهي شخصية منظومة الإنتماء الفطري التي أشرنا إليها .

أما شخصية إنتماءنا الفكري فهي بعيدة كل البعد عن واقع ووقائع مسيرة الوطن والدولة أما الذي يظهر من سماتها وملامحها بين الفينة والأخرى على إمتداد تجارب أنظمتنا السياسية بأسمها فهو فقط للشو وللإستهلاك والإتجار السياسي ، وبتالي نحن الشعب السوداني ونخبنا السياسية يجب أن نكون صرحاء مع إنفسنا وضمائرنا صراحة تفيد بأننا لن نستطيع بناء دولة عصرية متقدمة في ظل سيادة مفاهيم وثقافة وممارسات منظومة الإنتماء الفطري في كافة مناحي الحياة .

الخلل البنيوي الإطاري الثاني:- الأثر التراكمي لسياسات الدولة القسرية الإستعمارية الأولى التركية السابقة ١٨٢١ — ١٨٨٥ التي قسمت الشعب السوداني إلى ثلاثة مستويات مستوى دفنته تحت الأرض بفعل المقاومة والمواجهات والثاني همشته بشكل ممنهج وشردته ممارسة بحقه أقصى وأقسى أساليب هدر الكرامة الإنسانية والثالث إستصحبته لأغراض التمكين الإستعماري وخدمة أجندة فرق تسد الإستعمارية والإنتهازية .

البعد البنيوي الثالث :- الثورة المهدية مالها وعليها ١٨٨٣ – ١٨٨٥ – ١٨٩٨ معركة كرري نهاية الدولة المهدية بشكلها المادي وليس عمقها الروحي والسياسي والتنظيمي ، فعلى الرغم من الدور الوطني الكبير الذي لعبته الثورة المهدية من بلورة وبوتقة للمجهود والضمير الجمعي لنضال الشعب السوداني ضد الإستعمار ودورها الطليعي في تكوين مشروع الدولة الوطنية الوثبة الثانية تقريبا بعد الدولة السنارية إلا أن ملف هذه الثورة خاصة الجزء المسكوت عنه إجتماعيا وسياسيا ونخبويا وحتى على الصعيد الشخصي قد ظل وعلى مدى أكثر من مئة عام احد اخطر مصادر الكراهيات المبررة وغير المبررة التي تبث وسط تركيبة وتنوع تركيبة المجتمع السوداني كراهية عرقية عنصرية جهوية على خلفية أحداث وممارسات وقعت ويقال عنها قد وقعت وأرتكبت من قبل تلك الأمة التي خلت ، ولكن للأسف الشديد دفع ثمنها ولازال يدفع ثمنها الشعب السوداني ودولته ، كراهيات مجيلة جيل عن جيل تدرس عبر مناهج أسرية عنصرية عرقية جهوية داخل المنازل وعبر صفحات التاريخ المغلوط وحيث الحكاوي الشعبية شديدة الحساسية ، في تقديرنا أذا لم تفتح هذه الملفات المعلنة والمسكوت عنها حول تجربة الدولة المهدية وماحدث قبلها وبعدها من ممارسات إجتماعية مهينة مذلة للإنسانية تفتح وتناقش على الهواء الطلق من خلال برامج الحقيقة والمصارحة والمصالحة الوطنية الشاملة لم تقم قائمة لبلادنا ، فخطورة منظومة المجتمعات الفطرية على السلام الإجتماعي وعلى إستقرار الدولة تكمن في إنها شديد الحزازات والثأرات قليلة العفو والصفح الجميل ..

البعد البنيوي الرابع :- بعد الدولة القسرية الإستعمارية الثانية ١٨٩٩ — ١٩٥٦ ويقصد بها حقبة الحكم الثنائى التي سرى مفعولها بعد معركة كررى مباشرة ومعركة حولها كلام كثير خاصة فيما يتعلق بالسكوت عنه من مكر ودسائس ، وهي معركة أيضا صنف بموجبها الغزو الإستعماري الشعب السوداني إلى ثلاثة مستويات كما فعلت بالضبط التركية السابقة مستوي دفن تحت الأرض وآخر همش لشئ في نفس الإستعمار وآخر تم إستصحابه لخدمته وخدمة أجندة فرق تسد الإستعمارية والإجتماعية المعروفة .

. البعد البنيوي الخامس :- التدابير والترتيبات المفاهيمية السياسية الأدارية والتنفيذية والتشريعية التي تم بموحبها خروج الإستعمار وإجراء عملية التسليم والتسلم والتي بدأت سياسيا بوعد الحكومة البريطانية وعدها للشعوب المنضوية تحت منظومتها بالإستقلال حال إنتصار الحلفاء نهاية الحرب العالمية الثانية ١٩٣٨ — ١٩٤٥ ، وتشريعيا بإنشاء المجلس الاستشاري لشمال السودان ١٩٤٨ برئاسة السيد محمد صالح الشنقيطي ، وتنفيذيا من خلال التدابير والترتيبات التي قامت بها الآلية الخماسية للسودنة ٣+٢ مرورا بالترتيبات السياسية والتشريعية للفترة الإنتقالية الأولى ١٩٥٤ — ١٩ ديسمبر ١٩٥٥ وإعلان الإستقلال من داخل البرلمان ومن ثم الترتيبات السياسية والإدارية والفنية والإخراجية الخاصة برفع علم الإستقلال في صبيحة ١/١/ ١٩٥٦ .

البعد البنيوي السادس :- فشل الحكومات الوطنية المتعاقبة بمختلف مسمياتها ومرجعياتها منذ العام ١٩٥٦ فشلها في عقد مؤتمر دستوري مرجعي جامع معتمدة على إمتداد التجارب الوطنية على مشاريع المراسيم الدستورية المؤقتة والإنتقالية والإنتقائية وبإسم الدستور الدائم وأخير تراجعت معدلات التنمية السياسية والدستورية إلى وضعية الوثيقة الدستورية مجمل هذه التدابير والإجراءات بصراحة شديدة تتناسب ومنهج العيشة الذي تدار عبره الشعوب المستضعفة ، ولا تتناسب فكريا وسياسيا وإستراتيجيا ومنهج التعايش الذي تبني على أساسه العلاقات الدستورية الرأسية والأفقية وتمفصلية الحافظة للحقوق والواجبات على قاعدة ميزان المواطنة المتساوية .
ومن اهم المشاريع البنيوية التي كان ينبغي ان تطلع بها الحكومات الوطنية المتعاقبة وفي مقدمتها حكومة ١٩٥٦ لأجل بناء دولة وطنية مكتملة المهام والأركان محصنة من كافة أشكال وصور الفتن الإجتماعية والنزاعات والصراعات السياسية والمسلحة ، مشروع التخطيط الإجتماعي بالسودان بغرض الوقوف على نقاط القوة والضعف في البنية الأساسية الذهنية والمفاهيمية لتنوع مجتمعنا السوداني وذلك لضمان بناء دولة وطنية متجانسة منسجمة تبنى على أساس مجتمعي متين يكرس مطلوبات الأمن والإستقرار والتنمية الشاملة المستدامة ، مشروع تخطيط إجتماعي وطني مقتدر تسند مهامه وأعماله للإدارات الأهلية والطرق الصوفية ومنظمات المجتمع المدني والجامعات ومراكز البحوث والدراسات ودوائر الشئون الإجتماعية داخل المنظومة السياسية والحزبية بإعتبارها الجهات المناط بها فلترة بيئتنا الإجتماعية الداخلية فلترتها من كافة أشكال وصور الحواجز والهواجس المجتمعية الخطيرة التي تتمركز في العقليات والنفوس والنفوذ والنظرات وفي المفاهيم المصممة والمسممة بعناية تراكمية لضرب فرص الوئام والتماهي الإجتماعي في السودان مبقياه ومبغياه في وضعية جزر إجتماعية متحفية معزولة عن بعضها البعض وهي حالة إجتماعية للأسف الشديد غير قابلة للترقية الإجتماعية والتطور والتحضر الإنساني . ثم يليه مشروع إصحاح البيئة السياسية والتنظيمية الحزبية بالبلاد بقيام مؤتمر قومي تأسيسي جامع حول التجربة الحزبية والتنظيمية بالسودان والذي من أهم اهدافه تنقية وترقية البيئة السياسيةوالتنظيمية والحزبية بالبلاد بما يضمن تحويلها ومرجعياتها من إداة للحكم إلى وسيلة حكم راشد ومرشد لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة ولو بالغ اليدين الإثنين . ثم يليه سلسلة من المشاريع البنيوية على ضوء التشخيص البنيوي المشروع الإداري والفني والإقتصادي ومشروع العلاقات الخارجية أصول ثابتة ومتحركة ، ومشروع إستراتيجية قومية مرجعية شاملة تختلف عن سابقاتها من إستراتيحيات هزمتها النظرات الإيدلوجية الإنكفائية القاصرة والممارسات الإجتماعية والسياسية والحزبية المدمرة والتدخلات الخارجية بإجندتها المعروفة .

هذا برأينا جزء من الأبعاد البنبوية لقضيتنا وأزمتنا الوطنية المتطاولة والجزء الآخر بطرف السادة الخبراء وأصحاب التجارب العملية وللقارئ الكريم .
أما حكاية إصرار البعض لتحميل أوضاعنا التراكمية والظرفية بالجملة لحقبة زمنية محددة حقبة النظام السابق ١٩٨٩ — ٢٠١٩ هذا هو التضليل والتعمية السياسية والأستخفاف بعقول المواطنين والأجيال الجديدة وسواقتها بالخلا الصي ، وهو كذلك صورة من الإصرار والترصد السياسي للمضي عمدا في خط وخطوات التشخيص البيني بين التوجهات اليمينية واليسارية وده كوز وده فلول وده فازي في الأمصاري يمارس التيه والتتويه القديم هذه للأسف ليست هي الحقيقية كما أوردنا من توضيحات في متن القراءة ، نختم بالقول بأن أي قضية بهذا النوع من الشربكة والتعقيد والتشبيك السياسي التراكمي القديم لن تحل حلا نهائيا عادلا موضوعيا مستداما بالضوضاء والجوطة ( وعاك عوك ) إنما فقط بتوظيف أدوات سعة الصدور والعقول وبالفكر والتفكير الإبداعي وطرح البصائر وطهر الضمائر وعبر التفاوض والحوار السوداني السوداني الصريح المعمق في إطار مشروع الحقيقة والمصالحة الوطنية الشاملة للسودان الكبير في ظل بيئة وأجواء تتناسب والمناسبة . ولسع الكلام راقد هذا مجرد فكة خشم وتطرين وسن لسان لقضية تستحق ..

.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى