نعم .. حان الوقت
يكفي هذا بكل معايير المكاييل والموازين والقياسات..
يكفي ما سال من دماء، وما حدث من خراب، وما تسرب من فيروسات الكراهية والاستباحة والتهليل والعرضة والنشوة المجنونة احتفالاً بالأشلاء!
يكفي الجدال وسط الانهيارات الماحقة، حول من الذي أراد الحرب ومن الذي بدأها، فالحروب أوّلها كلام، والكل أطلق رصاص الكلام في وقت واحد، فكانت الحرب!
أرادوا الحرب وبدؤوها .. هؤلاء أو أولئك من رفاق الخندق الواحد .. وأدركوا الآن أن النار لا تعرف عدوّاً من صديق، فأذاقت الجميع، بلا استثناء، هذا العلقم الذي نشب بالحلوق.
منزلقٌ نندفع فيه بكل الهستيريا .. ولن تكون له نهاية إن لم نكبحه، سوى الارتطام الهائل، الذي بات يلوح جلياً، ولن يترك لنا قواماً أو عظماً نتكئ عليه لنمارس مجدداً الوقوف.
ما يجري لا تنحصر أهواله في صورته الحالية التي لا يضاهيها هول، فهو يقود إلى المنْفذ المتسع للتشظي الأعظم الذي سيتبعه. والانتصار الكاسح لأي طرف سيظل وهْماً نردده ونوزع تحت مظلته عبارات التخوين والإقصاء والازدراء، والمهزوم جزئيا في بعض الجولات سيصبح قوىً متشتتة تمثل خنجراً في خاصرة البلاد وساكنيها، يذيقها الويلات ويمنع العيون من الغفو والسبات.
ومن قال إن المنتصر، إذا كُتب له النصر، سيهنأ؟ فهو سيظل لسنوات طويلة نازفاً مشلول الحركة، يلعق جراحه، ويزدرد مراراته، وينوح على مفقوديه، ويتحسر على ما ضاع ولن يعود أبداً أبداً!!
القوة الصامتة الكبرى وسط السودانيين، تسكت لكآبة المنظر، وعتمة الصورة. هي لا تريد شيئا سوى أن يسكت صوت الرصاص، وأن تعيش فقط في أمان. يكفي أن تكون آمنة ومجتمعة بلا تشتت، وأن تحظى بكسرة خبز تسد الرمق، وأن يبتعد عنها كل من يوغرون الصدور ويؤججون النيران.
حان الوقت لإعادة الحسابات، كل الحسابات، فالواضح أننا نتنكب الطريق، ونفقد البوصلة، ونضيع الغايات ونحن نتطاحن في خلافات الوسائل.
حان الوقت لأن ندرك، بقناعة كاملة لا تشوبها الأهواء، بأننا خاسرون، خاسرون حتى النخاع حين نتعنصر، وحين نقصي، وحين نحشد، وحين ننفث الأحقاد، وحين نستثير الضغائن، وحين نغمض العيون عما نفعله بأنفسنا وبأيدينا.
فرصة التقاط الأنفاس لن تتاح إلا بإيقاف هذه المطحنة أولاً، إيقافاً شجاعاً وجريئاً وفورياً وبكرامة تليق بهذا الشعب.
ثم يتبعها استيعاب الدرس المرير الذي تجرعناه كلنا، وهو أن نمضي في طريق غير دروب الرمال المتحركة التي ستطمرنا في حشاها، ونتجاوز كل البؤر التي أوردتنا المهالك، ليكون مبتغانا الأوحد وطناً موجوداً لا تذروه الرياح، وإنساناً يستحق أن يعيش مرفوع الرأس آمناً سالماً مستقراً.