الخرطوم بحري قصة مدينة عمرها الانجليز ودمرها السودانيين الحلقة (2) النقل الميكانيكي الصرح الشامخ الذي هوى! بقلم: أمير شاهين
في الحلقة السابقة تحدثنا عن النماء والازدهار الكبير لمدينة الخرطوم بحري في فترة الحكم البريطاني للسودان والقفزة الحضارية الكبيرة التي حدثت للمدينة وجعلت منها مدينة صناعية عصرية حديثة بسبب ما شيده الانجليز في المدينة من خلال فترة حكمهم التي استمرت 57 عام (1899-1956م) من مؤسسات وصروح مثل السكة حديد و النقل النهري والنقل الميكانيكي ومصلحة المخازن والمهمات والمنطقة الصناعية التي كانت تعتبر الأكبر في السودان هذا بلاضافة الى البنية التحتية و الخدمات التعليمية و الصحية التى كانت متاحة للجميع و بالمجان ! . وفى هذه الحلقة سوف نتحدث عن النقل الميكانيكي والذي كان صرحا كبيرا شامخا ولفترة طويلة من الزمن ثم زال من الوجود بسبب العديد من الأسباب والتي سوف نحاول ايجازها في هذا المقال.
يعود تاريخ انشاء النقل الميكانيكي فى السودان قبل بداية الحرب العالمية الثانية بقليل، وكانت البداية الفعلية مع الحملة الميكانيكية التي بدأت بالخرطوم (الشجرة) ثم تحولت إلى (بري) ثم أخيراً إلى الخرطوم بحري في بداية الأربعينيات، وفى هذا الصدد يذكر الاستاذ صلاح لبيب الصحفى الكبير و شيخ الموثقين للخرطوم بحرى نسال الله ان يمتعه بالصحة والعافية وطول العمر بان اختيار موقع النقل الميكانيكى قرب مدخل كوبرى النيل الازرق قد جاء متسقاً ى مع خطة إعادة تخطيط الخرطوم، التي بدأت في بداية القرن الماضي وفي بداية الحكم الثنائي للسودان، والتي اختار المخطط (مدينة بحري) لتكون موقعاً للمصالح الحكومية الكبيرة، وذات الكثافة العمالية مستقبلاً (توقعات مستقبلية) مثل مصلحة البواخر النيلية أو الوابورات التي تحولت إلى هيئة النقل النهري.. وتأسست بعدها مصلحة المخازن والمهمات التي بدأت أيضاً (عسكرية) وتحولت (مدنية) تلبي وتوفر احتياجات الحكومة وطبعا الانجليز كانوا من افضل المخططين ولم يقزموا بعمل شئ الا بعد دراسته و تمحيصه
وعلى مستوى الدولة كانت مصلحة النقل الميكانيكي هي الجهة التي تمنح التراخيص والموافقة باستيراد المركبات بعد التأكد من صلاحيتها للاستخدام في السودان، وهي أيضاً الجهة المسؤولة عن توفير الاسبيرات وكل ما يتطلبه تسيير تلك العربات، والوقوف على سلامتها عند التشغيل، وتقوم بالمراجعة والصيانة الدولية وخلافه، ومن اجل القيام بهذه المسؤوليات خير قيام كانت مصلحة النقل الميكانيكى تضم افضل وامهر المهندسين و الفنيين و العمال المهرة فى كل المنطقة , وكان للنقل الميكانيكى فروع في كل مدن السودان جميعها تعمل بكفاءة و انضباط تحت اشراف الرئاسة التى كانت فى الخرطوم بحرى , ولك ان تتخيل حجم العمالة المدربة التى كانت تعمل فى هذا المرفق !
وفى مجال تنمية و تطوير المجتمع و الموارد البشرية, لعب النقل الميكانيكى دورا هاما فى بناء السودان الحديث وذلك لمساهمته الكبيرة فى تعليم وتدريب السودانيين على فنون وعلوم قيادة و صيانة السيارات و المركبات على مختلف انواعها وتدرب العاملين على الكهرباء والسمكرة والنقاشة والبرادة والخراطة والحدادة هذه المهارات والمعارف والتى لم تكن موجودة من قبل فى السودتن كان لها تاثير ايجابى كبير من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية فى السودان وذلك من خلال فتحه لمجالات عمل جديدة وفتح ابواب للرزق لم تكن موجودة من قبل للسودانيين داخل وخارج السودان وكما يذكر الكثير من العاملين بان ورش النقل الميكانيكى كانت تمثل حياة متنوعة، وعطاء إنساني لا تحده حدود وعلاقات إنسانية واجتماعية، قادت إلى مصاهرات وعلاقات أسرية ممتدة، وأيضاً بوتقة انصهرت فيها العديد من القبائل السودانية، بإرثها وتراثها، وعاداتها وتقاليدها . ومن ضمن انجازات النقل اليكانيكى هو التصديق بدخول لوارى البدفورد المعروفة باسم السفنجة ذات الاداء الممتاز و السمعة الطيبة الى السودان والتى تحكى عن اهمية هذا المرفق ما كتبه الاستاذ خالد لقمان فى المجهر بتاريخ 6/3/2019 حيث قال:
” بالأمس القريب حدثني أحد الشباب النبهاء العاملين ضمن جهاز المراجع العام عن قصة دخول سيارات البدفورد الإنجليزية الشهيرة للسودان، وذكر لي بأنه عندما عزمت الحكومة السودانية في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي على شراء سيارات نقل كبيرة لتغطية احتياجاتها في نقل المؤن وغيرها عكفت وعبر لجنة مختصة من مصلحة النقل الميكانيكي لاختيار الماركة الأفضل للسودان من كافة الجوانب خاصة البيئية والمناخية بجانب طبيعة الحاجة منها و حتى الذوق السوداني والمزاج العام للناس كان حاضراً ضمن معايير الاختيار الذي وقع علي شركة البدفورد الشهيرة، وبالفعل تمت مخاطبة الشركة الإنجليزية مع تضمين طلب مُلفت وهو ضرورة قيام الشركة المصنعة بإرسال نسخة من هذه السيارات لإجراء اختبارات عليها في السودان ومن ثم التقرير بشأنها وهو طلب ألح عليه أعضاء من لجنة النقل الميكانيكي بشدة .. تلقت الشركة الإنجليزية الطلب السوداني ولم تبد أي امتعاض تجاهه بل على العكس سارعت بالرد الفوري مبدية استعدادها لتنفيذ الطلب مع إرسال مهندسين بريطانيين للاستماع للجانب السوداني عقب إجرائه للاختبارات التي طلبها للسيارة الإنجليزية.. وبالفعل وصل المهندسون البريطانيون ومعهم السيارة ( النموذج ) التي اختبرها المهندسون السودانيون وأبدوا من بعد ملاحظاتهم عليها بل وأضافوا لهذه الملاحظات تعديلات طلبوا إدخالها على السيارات التي ستتعاقد عليها حكومة السودان من الشركة الإنجليزية وفي خلال الفترة المحددة للتسليم وصلت السيارات للسودان وتم التأكد من تضمين كافة ملاحظات وتعديلات لجنة النقل الميكانيكي، وأخيراً تم إدخالها للخدمة فبقيت تعمل لعقود طويلة جداً وبكفاءة عالية بل إن عدداً من هذه السيارات لا زالت تعمل حتى الآن بكفاءة وجودة مرضية ” انتهى
ولكن يبقى السؤال المحير والذي لا اجابة مقنعة له، وهو لماذا تمت ازالة النقل الميكانيكي من الوجود ومن الذى وضع حدا لحياته المليئة بالإنجازات؟
ومما لا شك فيه بان النقل الميكانيكى كان واحد من أبرز ضحايا ما يعرف باسم سياسة تحرير الاقتصاد وخصخصة المرافق العامة بموجب التى كان عرابها وزير المالية الاسبق عبد الرحيم حمدي فى سنوات الانقاذ الاولى، هذه السياسة ادت الى تحطيم مؤسسات كانت ملء السمع والبصر وعلى سبيل المثال لا الحصر السكة حديد و الخطوط الجوية السودانية و الخطوط البحرية و مشروع الجزيرة وتشريد الالاف من العاملين بها. وللسؤال بقية والاجابة فى حد ذاتها قضية.
ونواصل