الأعمدة

كاتبان سودانيان كبيران يتساويان عندي في عمق موهبة الكتابة

كاتبان سودانيان كبيران يتساويان عندي في عمق موهبة الكتابة ، كما يتماثلان في موهبة القراءة ، هما كمال الجزولي وحيدر ابراهيم وينضاف إليهما العبقري الطيب صالح. وكان الطيب قد قال لي ذات مرة إن نجيب محفوظ يملك سلطة هائلة علي تغيير الكتابة الروائية ، أما أنا فلا املك هذه السلطة ، ولو حاولت لقذفت بالطوب والبيض الفاسد! هؤلاء الثلاثة الكبار يلتزمون بالكتابة من حيث كونها فعلاً أخلاقياً ، فعلاً من أفعال الثورة والتغيير. ولهذا ليس نادراً ما ينقطعون عنها تماماً ، لفترات قد تطول أحياناً! يحدث هذا مع الطيب ، مثلاً ، الذي أجاب ذات مرة عن سؤال انقطاعه عن الكتابة بانشغاله بالقراءة! وكمال توقف على ما يبدو عن كتابة الشعر ، أما النثر الذي صار يتخذ عنده شكل “روزنامة” للقراءة والكتابة ، فيحدث أن ينقطع عنه ، أيضاً ، لفترات! وكذلك حيدر ، كثيراً ما يعلن “حرده” وتوقفه عن ممارسة الكتابة ، غضباً في ما يعلن من بعض المواقف! ثلاثتهم يتعاملون إذاً مع القراءة بوصفها حرية بلا حدود ولهذا فالكتابة ، رغم الانقطاعات ، تضيف لمساحة هذه الحرية اللامحدودة ، سواء في العام أو في الخاص. ومثلما درج جان جاك روسو على الاعتذار لحبيبته بالغياب ، فإنه كان أيضاً يقول لها إنني هنا أكثر مما ينبغي ، ولكنني سرعان ما سأعود قبل فوات الأوان! .
مهارات هؤلاء الكتاب الثلاثة تتفاوت في الطول والعرض والارتفاع الموسيقى بين صائتة الدال والمدلول . ولا تغفل العين عن صرامة ودقة تحديد المصطلح عند كل من حيدر وكمال ، ربما لميلهما الغالب إلى جانب الدراسات والأعمال البحثية ، خصوصاً على صعيد المادة المراد تفكيكها ، سواء في الاجتماع أو السياسة أو الفلسفة ، مع إضافة القانون بالنسبة لكمال ، وسواء تعلق الأمر بالأيدولوجيا أو بالمعاني والدلالات ولو في سياق بناء الأفكار العامة. من هنا جاءت ملازمة الأفكار الفلسفية الكبري عند كمال الجزولي ، كأفكار عالم الاجتماع الماركسي لويس جولدمان الذي قام بالموازنة ما بين الرؤية النقدية ومدرسة الرواية الفرنسية الجديدة ، حيث حدد الدرس النقدي عبر مدارس عديدة متقابلة ومتضادة “كالشيئية واللارواية”. وكان كمال الجزولي قد أبدى حرصه على استيعاب “مفتاح الرواية الاوربية” لجورج لوكاش ، والانعكاسات المطورة لأفكار ماركس في كتابه “زمن نهوض الرواية”، مشيراً لفترة سيادة بلزاك علي الرواية الفرنسية بحسب رؤية ماركس.

لقد ظل كمال متيقظاً منذ فترة باكرة إلى أنه لا محالة سيصطدم مع بعض رموز البنائية النقدية في السبعينات، كسامي سالم ، بعد ظهور كتابي “المرايا المقعرة والمرايا المحدبة” للناقد المصري محمد ابراهيم حمودة. وكان كمال ينفذ من هذه السطوح الفلسفية بوصفها مصطلحات لتحديد فضاء النص المفقود. هكذا توغل في الدرس، ما قاده لأن يعرض لمنجزات المدرسة الشكلانية الروسية ، وفاعليتها في المشهد عند مطلع عشرينات القرن التاسع عشر ، علي يد ميخائيل باختين الذي حدد بشكل قاطع “الخطاب النثري والخطاب الشعري” حينما قامت تحديدات سويسييير بمبدأ الاختلاف والإرجاء.

***
لأكثر من عقدين ظلت “الروزنامة” تمثِّل كما سلفت الإشارة عنواناً عاماً لاهتمامات كمال الجزولي المتنوعة. كما ظلت كتاباته فيها تتابع خطها السردي دون ان تتناسي مفاتيحها الأساسية في إدارة حلقات النقاش ، من حيث الأفكار الرئيسية الجارية في مستوي الحياة اليومية ، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما ظل يضع قلبه ويده وعينه علي تيار الحياة الجاري المتدفق، متميزاً بحضور قوي يذكر ببعض مشاهد السينما في الافلام القديمة قوية السرد والصناعة الدرامية ، مثل عبقرية مدرسة أوسون ويلز في فيلم “المحتجزان”، بطولة الزنجي سدني بواتيه وتوني كيرتس ، حيث تربط كلتا اليدين معاً وكل يتحمل ذنبه! وعندما يناقش كمال الجزولي ، في “الروزنامة”، مثلاً، تقنين نزع سلاح المتحاربين، يعرض للمسألة بالتفصيل بين ما هو “خاص” هنا، وماهو “عام” هناك . كما يتصدَّى ، بوصفه قانونياً ، لتحديد الحدود . ولكن تصعب في كثير من الأحيان المواءمة بين كونه ناشطاً في الفضاء “الشيوعي” الضيق على وجه الخصوص ، وناشطاً في الفضاء “التقدمي” الواسع على وجه العموم ، بحيث لا يتعارض هذا مع ذاك! فربما شهرة كمال الشخصية والعامة هي التي تلقي بظلالها على المسألة! ولكنني أثق في ضميره بسبب مزاملتي اليسارية له ، رغم عدم مشاركتي العضوية معه! .
***
بالإضافة إلى مجموعاته الشعرية التي توجها بالأعمال شبه الكاملة “أم درمان تأتي في قطار الثامنة”، ظلت جهود كمال الفكرية تصب في اتجاه المشروع الوطني الديموقراطي ، كما ظلت نشاطاته النقدية تجريبية وتطبيقية بالدرجة الأولى. وكان يدعم ذلك بمداومة الاطلاع على الدوريات المختلفة باللغات العربية والإنجليزية والروسية في السياسة والقانون والدراسات الدينية ، بالإضافة إلى الأدب والمسرح والموسيقي والغناء. وقد ترجمت بعض أعماله الشعرية والنثرية إلى الإنجليزية والروسية والأوكرانية. ويتميز نظره النقدي ، ومعالجاته الفكرية ، بالموسوعية والاستنارة وبربط الظاهرة الجمالية بالظاهرة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبحياة الناس عموماً ، ومن أبرز نماذج أعماله في هذا الإطار “إنتلجينسيا نبات الظل”، و”الآخر”، و”عتود الدَّولة”، و”الحقيقة في دارفور”، و”كتابا الروزنامة الأول والثاني”، و”نهاية العالم خلف النافذة”، والكثير غيرها من الأعمال شديدة التنوع ، هذا عدا المقدمات التي وضعها للعديد من المؤلفات المنشورة بالعربيَّة أو الإنجليزيَّة ، وذلك بطلب من مؤلفيها أو ناشريها ، ومن أهمها تقديمه لمجموعة بشرى الفاضل الشعرية “هضلبيم”، ولمجموعة ستيلا قاتيانو “العودة”، وللطبعة الإنجليزية من رواية بركة ساكن “الجنقو مسامير الأرض”، وغيرها.

يقرن كمال بين الاشتغال بالشعر والنوفيللا والقصة القصيرة والنقد ، ويبدي في كل ذلك من التحرر والنزوع الحداثي ما يجعله يلامس حتى الواقعية السحرية ، وبين النظر إلى الحياة في السودان ، وفي العالم عموماً ، من خلال حركة الفكر والثقافة ، وتتبع الاستراتجيات العالمية الأساسية ، والحراكات من أجل الحريات السياسية ، ولهذا فهو من أبرز المثقفين المساهمين ، ليس فقط في النشاط الفكري والثقافي السوداني ، وإنما الأفريقي والعربي أيضاً، دعماً لركائز الديموقراطية في تعدد أشكالها وتنوعها ، سواء على مستوى حقوق الإنسان ، أو الحريات الدينية ، أو الجهد المدني المساند للمحكمة الجنائية الدولية وكذلك لدحض الأحادية السياسية التي تجعل من المركز الأمريكي الواحد اختزالاً شائهاً لكل الأفق العالمي ، حاضراً ومستقبلاً ، ولدعم الجهود الرامية لإيجاد بديل عادل وشامل ، سواء للمنفعة الاقتصادية للشعوب ، أو حتى للقضاء على جائحة كورونا الحالية!
يظهر كل ذلك من خلال العشرات من كتبه ، والمئات من أوراقه البحثية ، ومقالاته في الصحف الورقية والمواقع الإليكترونية داخل وخارج السودان ، والتي تعكس اهتماماته العميقة ، كمناضل ، وكمثقف عضوي ، بهذه القضايا ، جنباً إلى جنب مع قضايا الشعر والأدب العالميين المعاصرين أو التاريخيين منذ 550 ق.م ، شاملة التراجيديات الكبرى لهوميروس وسفوكليس ويوربوديس، وأصداءها في أعمال اللاحقين الذين ربطوا بين تلك المسيرة وبين جهود خلق عالم جديد.
وكدارس متخصص للغة الروسية وآدابها أسهم كمال في تقديم بعض أجمل الأعمال في هذه اللغة ، كسرديات تشيكوف ، وأشعار يفتوشينكو ، ومايكوفسكي ، والتعريف بمستقبليته ، كما عرض بنقد عميق لأعمال شهيرة كرواية سولوجينستين “عنبر السرطان”، ورواية شولوخوف “الدون الهادئ”.
في كل ذلك يظل هذا الظل العالي راسخاً يعكس كياناً شاهقاً يصادم البنى الفكرية المتكلسة ، والأنظمة السياسية المتخلفة ، ويقاوم ذلك كله كما تقاوم المعادن الجيدة الطقس السئ ، ويناضل من موقع شديد الاستقلالية والحرية لأجل مبادئ لا يعتريها الصدأ ، متحملاً في سبيلها ، عن طريق الاستمساك بقيم الصمود والصبر الجميل، شتى صنوف الآلام والمعاناة ، ما بين مكاره الاعتلالات الصحية وشدائد السجون الخرصانية. وكيف لا يفعل وقد أسس صورته، معنى ومغزى ، شكلاً وطيفاً ، على صورة الوطن الذي يستميت للمشاركة في إبداعه ، تماماً كما يبدع المثقفون المحترمون الملتزمون أوطانهم.
***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى