الأعمدة

سوف تلهو بنا الحياةُ وتسخر فتعال أحبُّك الآنَ الآنَ أكثر : طارق حاج التوم

سوف تلهو بنا الحياةُ وتسخر
فتعال أحبُّك الآنَ الآنَ أكثر
كان ذلك الصوت الكلثومي الملاكي يخرجُ منسابًا من سمَّاعةِ الفونوغراف في غرفةٍ صغيرةٍ في ركن المنزل الصغير الذي يحوينا
كان في اليوم الواحد من ذاك الزمان في في منتصف سبعينيات القرن العشرين متسعٌ لعديدٍ من الأنشطةِ والأحداث، كأن أحضر من المدرسةِ قبل أن يحضر بقيةُ إخوتي فأنا أصغرهم وإن لم تكن جدتي بتول رحمها الله قد صنعت قهوتها التي تشربها ظهر كل يوم أن أجلس في بنبرٍ صغير أمامها وأضع الفحم في كانونٍ صغير وأشعل نارًا وما أن أشتعلت النار حتى تمدُّ إليَّ كميةً صغيرةٍ من حبات البن لأضعها في المقلاة وحين يقترب البن من النضوج تخرج علبة صغيرة فيها بهار القهوة فتخرج لي منها قطعة صغيرة من الزنجبيل وحبتين من الهبهان ومثلهما من القرنفل فأضيفهما إلى البن في المقلاة وأواصل القلي وكنت أمدُّ لها المقلاة بين الفينةِ والأخري لترى إن كان البن قد وصل ألى المستوى المطلوب من النضج ولتشمَّ رائحة البن حتى إذا أبدت لي ذلك بالإيجاب وضعت البن المقلي مع البهارات في الفندُك وبدأت بدق البن وهي تراقب كل ذلك وتؤنسني بكثيرٍ من الحكايا والطرائفِ والغرائب وأكون قبل ذلك قد وضعت ماءً في الشرغرغ فيغلي الماء ريثما أتمُّ دق البن فأقوم بإفراغ البن المسحون من الفندك في ماء الشرغرغ واتركه ليغلي مدةً من الزمن تكفي لتحويل الماء إلى لون القهوة الساحر البني المائل إلى السواد ثمَّ بعد ذلك أصفي القهوة بليف النخيل في الجبنة الفخارية ثم أضع الجبنة على الوقاية وأتركها قليلًا ريثما تروق فأصب لها فنجانًا من البكري تشربه وقد أشعلت سيجارة البينسون المستورد وقد تنادي أمي رحمة الله عليها لمشاركتها الجبنة بينما أكون أنا قد صببت بعض الماء في ذات الشرغرغ وما احتواه من باقي البن في انتظار أن أصنع بالتني ما فعلت بالبِكري وكانتا تمنعاني من شرب البكري وقد تجود علي بتول بالتِني ولكني في كل الأحوال أحصل على فنجانٍ من التلتاوي غير أنِّي بعد أن كبرت قليلًا وكبر نصيبي من القهوة وصرت أشرب البكري وأتعجب من منعي منه صغيرًا أكان ذاك من ضنِّ الكبار به علينا أم خوفهم من التعلق بالقهوة في ذلك العمر الباكر ؟!
بعد أداء طقوس البن مع بتول رحمها الله يكون أخواي الفاتح والرشيد قد عادا من المدرسة فأنتقل معهما إلى غرفة الأولاد وتدور أسطوانة الفونوغراف مثلما تفعل كل يوم مع ارتفاع صوت أم كلثوم بالغناء :
هذه ليلتي وحلم حياتي
بين ماضٍ من الزمان وآتي
اتساءل الآن ما الذي يمنع من استطاع خزن هذه الأحاسيس الشفافة المنسابة كل هذا الزمن من أن يصبح شاعرًا ؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى