الأعمدة

راجعين بقوم السلاح

غزة في قلب جحيم إسرائيلي ، يحيل عملية “التسوية” السياسية إلى تسوية بالأرض .. المدينة المكلومة يجلس أمامها ، سماسرة دماء يرتدون معاطف الشتاء الأوروبي القارس انتظارا لغنيمة نفطية تلقيها لهم واشنطن .. وعلى يمينها ، يجلس “الصمت” العربي، وعلى اليسار الشريك الأمريكي.. والبحر من خلفها .

تلك خريطة غزة ما بعد 7 أكتوبر.. جغرافيا سياسية “طارئة” تنحتها المجازر الوحشية اليومية الصهيونية هناك، وقد كشف عنها نتينياهو خلال مؤتمره الصحفي المتعلق بتبادل الرهائن والهدنة ، عندما قال : “سنخلق واقعا جديدا في غزة”.

خطط إنهاء القضية الفلسطينية لم تبرح خرائط اليمين الصهيوني قط ، منذ الولاية الأولى لنتينياهو العام 1996 ، إلى أن جاءها الظرف المناسب في السابع من أكتوبر الماضي، وعلى طبق من “دماء”، يحطم القيود التي تغل يد الإتئلاف الحاكم في تل أبيب، دون تنفيذ مشروعه وحلمه في “إسرائيل الكبرى” .. هذا هو التوقيت المثالي في رأي اليمين الصهيوني العنصري لابتلاع غزة أولا، من أجل الانتقال بقوة السلاح  إلى البند التالي في جدول أعمال المشروع الوطني التاريخي الصهيوني.. المشروع الذي يصدقه ويؤمن به الجمهور الإسرائيلي ، ويصوت لصالحه في صناديق الانتخابات .. إذن الظرف التاريخي مناسب أمام اسرائيل استنادا على :

ـ شراكة أمريكية ، وتواطؤ دولى مفضوح .

ـ العرب ليس بوسعهم شيئا مهما ، في ظل قلة حيلتهم.

ـ دولة احتلال ، تضرب القانون الدولي بالبيادة.

ـ شبه إجماع “وطني” داخل إسرائيل على ضرورة قتل الفلسطينيين وسحقهم، وطرد من يتبقى منهم على قيد الحياة خارج فلسطين .

ـ نتينياهو ليس أمامه سوى دخول تل ابيب على صهوة حصان المنتصر ، بأكبر عدد من المدنيين الفلسطينيين ، وإعادة ترتيب غزة بما يسمح له بالانتقال إلى بند آخر في المشروع الصهيوني.

ـ مصر، محاطة بحزام نار في الشرق والغرب والجنوب ، يهددها مخاطر سد النهضة ، ديون ضخمة ترهق كاهل الدولة ، ما يضع خياراتها مليئة بالأشواك .. في أفضل حال يمكن القول أن مصر في موقف استراتيجي يجعلها تفاضل بين الأسوأ والأقل سوءا.

تبدو إسرائيل وكأنها اللاعب الوحيد في الإقليم .. لا أحد بإمكانه ردعها في المضي إلى مشروعها الاستعماري ، والرهان على “الحليف الأمريكي” لوضع حد للجبروت الصهيوني خيال علمي لا أكثر ولا أقل .

إخلاء غزة من السكان هدف “تكتيكي” لإسرائيل ، يتم استخدامه لاحقا، كمنصة قصف على الضفة الغربية عندما يحين تنفيذ الجزء الثاني من خطة الحرب التي تستهدف “تطفيش” أهالي وسكان الضفة الغربية بالقتل والاعتقال والهدم والمصادرة ، ما يستفز الفصائل المسلحة ، لتنهي اسرائيل الجزء الثاني من خطتها بقوة السلاح مثلما فعلت في غزة .

مشروع “اسرائيل الكبرى” يسعى إلى نحت جغرافية “دائمة” بقوة السلاح ، خالية من الجبال ، تضاريسها رملية، تتشكل منها تلال وهضاب عربية.. جغرافيا ، تسحق إرادة العرب تحت زعم أن “الأمن هو إسرائيل ، وإسرائيل هي الأمن” .

صحيح أن الرئيس الأمريكي والاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية والصين وروسيا، وكل الكائنات الحية على كوكب الأرض ، يرفضون خطة تهجير أهالي غزة إلى أقصى نقطة في الجنوب قبل الحدود المصرية، إلا أن تاريخهم (وتاريخنا) مع القضية الفلسطينية يجعلنا في قلب سيناريو متشائم ، له مبرراته الموضوعية، تستند في المقام الأول على المناخ الاسترتيجي الدولي والاقليمي الذي يوفر لاسرائيل الفرصة الذهبية لتحويل الحلم إلى حقيقة .. مناخ لم يتوفر للأطماع الصهيونية من قبل !

لا يتبقى لنا من آمال سوى الدعاء إلى الله ، ثم الاعتماد على قوة السلاح نفسه، الذي يقتل ويشرد مئات الآلاف من أهل غزة ، فربما “تنجح” مشاهد الدماء التي تقدمها الصواريخ الإسرائيلية، في قلب السحر على الساحر.

بقوة السلاح الإسرائيلي، انتفضت الإنسانية في شوارع واشنطن ، لندن ، باريس وبرلين وغيرها .. وبقوة السلاح وشراسته ، تراجع الشركاء في البيت الأبيض ، والمتواطئون من حكومات أوروبا أكثر من خطوة تجاه الموقف الإنساني في غزة ، والتقدم خطوة نحو ضرورة الوصول لحل نهائي ، يرضي الأمن الإسرائيلي ، ولا يغضب اليمين الصهيوني ، ويبقى باب مشروعهم في “إسرائيل الكبرى” مفتوحا ، أو مواربا على الأقل، خصوصا وأن غزة يتم ترتيب سياسي لها بمعرفة إسرائيل وأمريكا، يهدىء من مخاوف مصر ولا يستفزها بالقراءة الإسرائيلية.

بقوة السلاح ، انهزمت إسرائيل في الحرب الدعائية التي طالما كانت لها اليد العليا ، وبغزارة الدماء خسرت اسرائيل الحرب “الإنسانية” وانكشف وجهها القبيح أمام شعوب الأرض .. بقوة السلاح لن يتحقق المشروع الصهيوني ، وربما تنتهي الأحداث بفرض حل الدولتين ، ويخسر اليمين الصهيوني مشروعه التوسعي العنصري.

الأبواب تبدو مسدودة أمام مخرج أو مهرب من الذبح الإسرئيلي، ولم يتبق سوى الرهان على “قوة السلاح” وأن يكون الدب الذي يقتل صاحبه ؟

أما المقاومة الفلسطينية فتمتلك من قوة الإرادة ، ما يعادل قوة السلاح ، و”فيديوهات”القتال القادمة من غزة ، تقدم مشاهد لجنود إسرائيليين يفرون من النيران وملابسهم الداخلية مكشوفة ، بينما نجد مقاتلا من حماس يرتدي “شبشب” ويحمل على كتفيه سلاحا مضادا للمدرعات ، ويواجه دبابة ويفجرها، مشاهد تعيدنا إلى كلمات صلاح جاهين ولحن السنباطي وصوت أم كلثوم :

أحمد عادل هاشم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى