الزغاريد تعبير عن الفرحة وفي مصر وداعاً للمتوفي ..
تبدو الزغرودة وكأنها تقليد أزلي، تعبير صوتي غامض يحمل سحراً خاصاً قادراً على الإعلان عن خبر ما باختصار شديد، وإن كان يستخدم عادة للدلالة على الابتهاج والفرحة، ولكنه أيضاً يمكن أن يحمل أوجهاً عدة، لا سيما في بدايات نشأته الأولى التي بدورها تتسع تفسيراتها وتتشعب حيث تنسب لأكثر من حضارة.
في النهاية فإن حركة اللسان تلك مع اللعب بطريقة إخراج الهواء من الحنجرة واستعمال كف اليد فوق الفم، لإبراز التنويعات والنغمات هي بحد ذاتها لغة مفهومة وموجزة لكثير من الأفكار، وهي بحسب الباحثين وسيلة للتواصل والإخبار عن الحال أو الموقف سبقت بكثير ظهور اللغات والألفاظ المحددة.
عربياً يظل طقس الزغاريد أساساً في المناسبات السعيدة، من المحيط إلى الخليج تحرك النساء ألسنتهن ببراعة في الأعراس ويتسابقن في إظهار قدراتهن على إتقان هذا الفعل المرح، كذلك بعض الرجال لا يجدن حرجاً في منافستهن بهذا التصرف، لكن المؤكد أن هناك حضارات عدة استلهمت تقاليد مشابهة أيضاً واستعملت هذا الصوت في الأفراح والأحزان والمواقف الحماسية وحتى في أوقات الخطر.
تناقلت الشعوب هذه العادة وكل منها أضاف لها لمسته الخاصة، التي تتوافق مع طبيعة بيئته ومجتمعه، وبالتالي فإن تأريخ نشأة الزغاريد يواجه صعوبات جمة حيث من الصعب أن يتم نسبها لحضارة بعينها، أو منطقة جغرافية محددة، لكن في كل الأحوال فإنها أثبتت قوتها وصمودها واستمراريتها وشعبيتها التي جعلتها رائجة حتى اليوم في كافة الطبقات.
مسميات متعددة واستخدامات متشابهة
كثيراً ما تباهت العائلات لا سيما في المناطق الريفية وجنوب البلاد بقدرة نسائها على الزغردة بقوة، حيث إن هناك محددات كثيرة لجمال الزغرودة بينها النغمة والنفس الطويل والصوت العالي الواضح المجلجل، مقارنة بأخريات يفشلن في أن يكملن ثواني قليلة وتخرج الزغرودة من حناجرهن مثل الصرخة.
وعادة ما تدعى صاحبة الزغرودة الأجمل لتضفي جواً من البهجة على الأمسية السعيدة وكأنها هي من تحيي الحفل بإطلاق زغاريد تستقطب القاصي والداني، سواء في عرس أم حفل استقبال مولود، ويعرف في مصر بـ”السبوع”، وفيه تحتفل العائلة بطقوس خاصة بعد مرور سبعة أيام على استقبال الرضيع، أو ابتهاجاً بعودة الحجاج من الأراضي المقدسة، أو في مناسبات النجاح الدراسي، أو العودة من السفر، وغيرها من المواقف التي تستدعي الاحتفال.
لا يختلف الأمر كثيراً في بقية البلدان العربية وإن اختلفت مسميات الزغرودة نفسها، فهناك من يطلق عليها في بلاد الشام مثلا “زلغوطة ومهاهاة “، وبحسب الباحث محمد خالد رمضان في كتابه “دراسات في الزغرودة الشعبية السورية” الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2009 فإن هناك مواقف متعددة لإطلاق الزغاريد بينها، “الفخر والتغني بالأمجاد ومآثر العروس والعريس، والنصائح والتوادد، وزغاريد الوصف، وزغاريد العصبية العائلية”، كما يصف الزغرودة بأنها عملية معقدة وصعبة.
يضيف، “تبدأ بثلاث نساء يقفن بالقرب من الإنسان الذي يقام الفرح لأجله وتبدأ إحداهن بالزغردة، فتضع يدها اليسرى فوق أنفها وفمها، أو الطرف الأيسر من رأسها وتغني الزغرودة، وعندما تأتي إلى نهايتها تشارك الأخريات مهاهاتهن بصوت رخيم وجميل”.
يطلق على الزغرودة أيضاً في مجتمعات عربية أخرى الهلهولة واليباب والغطرفة، والتزغريتة في اللهجة المغربية حيث اعتادت النساء على إطلاق ثلاث زغاريد حينما ترزق العائلة بمولود ذكر وواحدة حينما تكون المولدة أنثى، والزغروطة بالعامية المصرية، حيث تطلق عادة في حفلات الزفاف وفي الاحتفال بالتفوق الدراسي وابتهاجاً بعودة الغائب.
العرس الديمقراطي
أخيراً بات هناك تقليد شعبي يتعلق بإطلاق النساء الزغاريد أمام لجان الانتخابات التي تتحول إلى عرس ديمقراطي بالمعني الحرفي والمجازي، فترقص الفتيات في هذا الطقس ويزغردن كذلك، وهو التصرف الذي تم استحداثه في السنوات الأخيرة وأثار جدلاً واسعاً، وعلى رغم ذلك بات معتاداً للغاية في الأحداث السياسية الكبرى التي تتطلب تصويتاً شعبياً في البلاد، ولكن أيضاً في المآسي التي تكون عصية على الاستيعاب والتقبل يمكن اللجوء لهذا الفعل الذي قد يجده البعض مساعداً في الرضا بالقدر، لا سيما حينما تفقد الأسر شاباً يافعاً على حين غرة، فيعتبرونه عريساً في انتظار الفوز بالجنة، وهو أمر متكرر في جنازات من يلاقون حتفهم في أثناء أداء خدمتهم الوطنية والعسكرية، وكذلك إذا ما كان الفقيد معروفاً عنه الصلاح وطيب الخلق والقرب من الله، حيث تقام له جنازة ذات مظهر احتفالي تتضمن طبولاً وزغاريد مثلما أكد الشاعر مسعود شومان الباحث في التراث الشعبي.
وتوديع المتوفي بالزغاريد يقال أنها عادة مصرية
تعود للعصر الفرعوني منذ أكثر من 3 آلاف عام قبل الميلاد، ويتم استدعاء هذا الطقس مراراً وقت الحاجة، لكن تبدو الحالة الأكثر وضوحاً لتوديع الراحلين بالزغاريد ما يحدث في بعض الجنازات اللبنانية مثلما جرى في جنازة الفنانة صباح والفنان جورج الراسي وغيرهم.
زغاريد الجنائز
فيما الحالة الفلسطينية هي أشد سطوعاً في ما يتعلق بالزغاريد في استقبال جثامين من راحوا ضحايا لنيران الجيش الإسرائيلي باعتبارهم يدافعون عن الوطن، لكن بالطبع لها حضور طبيعي في الأعراس أيضاً بحسب ما تشير دراسة صادرة عام 2012 بعنوان “فن الزغاريد الشعبية في الأعراس الفلسطينية” للأكاديميين معتصم عديلة وحسن الدراويش، ومما جاء فيها أن الزغاريد تعمل على تقليل الحاجز النفسي بين العروسين ليلة الزفاف فبعد عقد القران يتم إطلاق الزغاريد وكأنها بمثابة إعلان عن إنهاء حالة الخوف بين الطرفين.
وترجع الدراسة نفسها نشأة الزغاريد للعصر الجاهلي مؤكدة أنها عادة ممتدة منذ قدم التاريخ في الأفراح، ترافقها الأناشيد الحماسية المبهجة، ولكن التأصيل التاريخي للزغاريد بشكل عام تتنازعه الثقافات، فمثلاً الباحث والكاتب سامح مقار ناروز يقول في كتابه “اللهجة العامية وجذورها المصرية” إن الزغردة تقترب كثيراً من اللفظ القبطي “أورو” وتعني ملك، حيث كان العريس قديماً يرتدي تاجاً ملكياً ومن حوله يصيحون بالكلمة، وأصبحت عادة شائعة ومع مرور السنوات والعقود نسي الناس معناها الأصلي وظنوها صوتاً رمزياً للتعبير عن الفرح، ومن هنا نشأت الزغروطة المصرية التي تبدو سماعياً وكأنها تكرار سريع للفظ “أورو”.
جدل تأصيل فن الزغردة
في حين يعتقد كثيرون أنها عرفت مع الإنسان البدائي وقبيل اكتشاف الحضارات نفسها، ترى بعض المراجع أنها تقليد ضارب في القدم أيضاً حيث كان يتم ترديد هذا الصوت الذي يشبه صوت البعير المتردد في الحلق، طلباً للغوث والعون ولدرء الكوارث الطبيعية وتوسل نزول المطر، كما ينسبها آخرون للسكان الأصليين في أميركا الشمالية حيث كانوا يصدرون تلك الأصوات للتعبير عن طلبهم النجدة أو لإثارة الحماسة في مواقف المواجهات، أو للتنبيه من خطر قادم وحتى لإثارة مشاعر التحفيز أثناء محاصرة الفريسة تمهيداً لصيدها والتهامها، ولم يختلف الوضع كثيراً بالنسبة لشعوب أميركا اللاتينية.
كما يذهب بعض الباحثين إلى أن أصول الزغرودة تعود لإحدى القبائل الهندية وتسمى لديهم “جوكار” وهي بالنسبة لهم طقس لطرد الطاقة السلبية والحسد، ومن المتداول أيضاً أن الزغرودة وسيلة للتعبير عن مشاعر الحماسة أو الفرح وحتى الصدمة عرفها الأمازيغ وقبائل الغجر، وكذلك شعوب أفريقيا على مختلف أنواعها واستخدموها كشعار أو إعلان للانتصارات في المعارك، ومن ثم انتقل هذا التقليد للبلدان المجاورة، وتبقى الزغاريد النوبية المنطقة المصرية القريبة للسودان ذات طابع خاص ومغاير تماماً لنظيرتها المنتشرة في بقية عموم مصر.
وهو ما يؤكده أستاذ فنون الأداء بالمعهد العالي للفنون الشعبية الدكتور محمد شبانة، مشيراً إلى أن الزغرودة النوبية بالفعل مختلفة تمام الاختلاف ولا تخطئها الأذن، حيث تبدو كنغمة محددة بلا تنويعات أو حليات.
ويشير إلى أن الزغرودة صوت معبر له طابع وسمت مميز، وموجود في الثقافة المصرية وثقافات أخرى كثيرة، مشيراً إلى أنه أعمق تعبيراً من الكلمة واللفظ، فهو مثل الضحكة والآهة، وإن كان في أغلب الأوقات يعبر عن حالة الفرح والسعادة ولكنه أيضاً قد يستخدم في بعض الجنازات.
طقس اجتماعي عابر للغات
الزغاريد باعتبارها معلماً مهماً في المناسبات الاجتماعية، كانت حاضرة بقوة في السينما المصرية حيث تم توظيفها بطريقة تؤكد رسوخها في الثقافة الشعبية، وتظهر كدعوة للمشاركة في الأفراح، وقد اشتهرت نجمات عديدات بأدائها بإتقان ومرح، بينهن زينات صدقي وجمالات زايد ووداد حمدي ونبيلة السيد وغيرهن، اللاتي حملن من خلالها الأنباء السارة التي غالباً ما كانت تقلب أحداث الدراما.
وكذلك حملت عشرات الأغنيات لمحات من الزغاريد، وباتت جزءاً لا يتجزأ من اللحن، وهو ما يعلق عليه شبانة بالقول إن الزغرودة كمعبر عن الفرحة تستخدم في الأغنيات كحلية تضفي جماليات للجملة الموسيقية، وأشار إلى أن تطويع الصوت في بعض الأوقات يكون أهم من المنطوق، مشيراً إلى أن كثيراً من أغنيات سيد درويش كانت تتضمن طابعاً صوتياً خاصاً جداً من شأنه أن يرسل رسائل معينة، لا يتم البوح بها بالكلمات الصريحة.