هل لتحرير الخرطوم عام 1885 علاقة بحربها عام 2023؟ الرأي والرأي الآخر أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
تمهيد
وصلتني “نصوص منقولة” بعنوان “ما يحدث الآن حدث قبل مائة وثمانية وثلاثون عام [كذا] في سقوط الخرطوم علي يد أنصار المهدي، حقًا نحن أمة لا نتعظ من التاريخ”، من عدد من الأصدقاء، يستفسرون عن صحة المعلومات الواردة فيها، ويبدو أن الشيء الذي دفعهم إلى ذلك الاستفسار أنَّ “ناقل النصوص” قد ذكر من ضمن مصادره “مذكرات يوسف ميخائيل”، التي حققتُها، ونشر طبعتها الأولى مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان عام 2004؛ إلا أن القارئ المتبصِّر في ثنايا النصوص المنقولة، يلحظ الآتي:
أولاً: أن كل المعلومات التي ذكرها “الناقل” منقولة نقلاً حرفياً من كتاب إبراهيم فوزي باشا، “السودان بين يدي غردون وكتشنر”، لم يرد نصٌ واحد منها في المصادر التي وضعها في النهاية. ويبدو أنه قد قصد بذلك تمويه القارئ وإضفاء نوع من المصداقية على نصوصه المنحولة. ويعتبر مثل هذا النهج في التدوين ضرباً من ضروب التطفيف؛ لأنه يُجرد النصوص من مصداقتها.
ثانياً: توجد أخطأ في عناوين بعض المصادر التي ذكرها “الناقل”، ومنها على سبيل الحصر “مذكرات محمد عبد الرحيم”، لم يكتب محمد عبد الرحيم مذكرات، بل كتب عدداً من الكتب، ونذكر منها: “النداء في دفع الافتراء”؛ “الصراع المسلح على الوحدة في السودان أو الحقيقة عن حوادث 1924″؛ “محاضرة عن العروبة في السودان”. كما ذكر “الناقل” “مذكرات بابكر بدري”، علماً بأن العميد بابكر لم يصدر كتاباً بهذا العنوان، وإنما جاءت مذكراته تحت عنوان “تاريخ حياتي” في ثلاثة مجلدات، المجلد الوحيد منها الذي يتحدث عن فترة المهدية هو المجلد الأول؛ إلا أنه لم يذكر شيء مما جاء في النصوص المنحولة. وكذلك ذكر “الناقل” منشورات الإمام المهدي التي حققها محمد إبراهيم أبوسليم؛ إلا أن عنوانها الصحيح هو “الآثار الكاملة للإمام المهدي”، وتختلف مجلدات الآثار الكاملة السبعة عن “منشورات المهدية” التي حققها أبوسليم.
ثالثاً: سأذكر في الفقرة الآتية النصوص المنحولة كاملة، كما وصلتني من أحد الأصدقاء، دون حذف، أو تعديل، أو تصويب للأخطاء الأسلوبية واللغوية الواردة فيها، والتي يُعزى معظمها إلى آفة النقل المتعجل، بل أكتفي بوضع النصوص المنقولة من كتاب إبراهيم فوزي باشا بين علامات تنصيص، وأشير إلى الصفحات المذكورة فيها في نهاية كل فقرة، حسب الطبعة الصادرة من الدار السودانية للكتب في العام 2010، وذلك من أجل التوثيق وصون الأمانة العلمية. وفي الخاتمة أعرض بعض الاستنتاجات المستقاة من التمهيد ومحتويات النصوص المنقولة. (2)
النص الكامل للمقال
ما يحدث الآن حدث قبل مائة ثمانية وثلاثون عام في سقوط الخرطوم علي يد أنصار المهدي حقًا نحن أمة لا نتعظ من التاريخ!
في 26/ يناير 1885 “بلغ عدد القتلى من سكان الخرطوم يوم سقوطها أربعة وعشرون ألف رجل، وقتل الأطفال وكل ذكر ولو كان رضيعاً إلا أن النساء لم يقتلن. ابتدأت هذه المذبحة عند طلوع الفجر وبين شروق الشمس، أصدر الخليفة أمراً بالكف عن القتل وأُخرج السكان من منازلهم بملابس النوم وأصدر أمين بيت المال أمراً إلى الحاج خالد العمرابي بالوقوف على باب الخندق لتفتيش كل خارج من سكان المدينة الذين أُمروا بالبقاء في بقعه بين الخندق ومعسكر ابن النجومي واستولى الدراويش على المنازل ( حدث ويحدث الان) .وفي اليوم التالي بدأ تعذيب الناس حيث يستدعون صاحب المنزل وكبار أفراد عائلته إلى منزل الأمين ويبتدؤن مكالمته بقولهم له حيث أنك كفرت بالله ورسوله وحاربت المهدي فقد أهدر الله ورسوله دمك وحرم مالك وصيره حقاً للمهدي والمهدي عفا عن دمك ولا سلامه لك في الدنيا والآخرة إلا بتسليم جميع أموالك حتى الخيط والمخاط. وسواء اذعن لهذه الاكاذيب وسلم ماله أو لم يسلم فلا بد من ضربه ألف سوط والمرأة نصفها وتوثق يداه ورجلاه ويلقي على الأرض ويصب عليه الماء البارد في الليل، وبقي السكان في حالة العذاب هذه حتى جُمعت الأموال والأمتعه في بيت المال.” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، ص: 5-6).
“ومن الاحداث التي وقعت يوم سقوط الخرطوم أن رجلاً اسمه (كريب) من أقارب المهدي ومن حراس الخليفة شريف الذين يطلق عليهم اسم (الملازمية) ( الدعامة ) ومعه نحو عشرة من أقاربه دخلوا منزل رجل مصري اسمه (ابراهيم) له سبعة إخوه فقتلوا الثمانية وفتشوا المنزل فلم يجدوا به مالاً وكان لابراهيم غلام في التاسعة من العمر فأخفته امه ونساء اعمامه في وسط الأمتعه خوفاً عليه من القتل إلا انهم عثروا عليه في غضون التفتيش واخرجوه فتراءت امه ونساء اعمامه على أقدام (كريب) ورفقائه وقلن له ان والده واعمامه السبعه قتلوا فنسألك بالمهدي أن تترك لنا هذا الصبي فالتفت عليهن وقال كيف نتركه ونحن لم نجد في بيتكن ذهبا ولا فضه وكلكن نساء مسنات ليس بينكن من تميل النفس إليها ثم صاح برفقائه وقال قطعوا الصبي ثماني قطع واتركوا لكل واحده منهن قطعه ولم يتم هذه العباره حتى تناول رفقائه الصبي وقطعوه ثماني قطع وألقوا لكل إمرأة قطعه، ومثل هذه الحادثه يعد بالالوف ذكرنا منها هذه للدلالة على اخواتها.” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، ص: 6)
“وأُخذت النساء سبايا وأرسل أمين بيت المال بنحو ألف عذراء من بنات أعيان المصريين فاختار المهدي منهن ثلاثين فتاة من ذوات الحسن والجمال آباؤهن من وجهاء المصريين سكان المدينة ووزع الباقي على حرسه وذوي قرابته وكلهن كموطوآت بملك اليمين.” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، ص: 6)
“وأرسل أمين بيت المال عدداً عظيماً من النساء إلى عبد الله التعايشي فأبقى لديه العذارى منهن ووزع الباقي على حراسه وذوي قرابته أيضاً، وصار كلما قضى وطره من واحدة يهديها إلى أحد رجال حاشيته. وأرسل أمين بيت المال أيضاً بمئات من النساء إلى الخليفتين علي ود حلو ومحمد شريف وكان عملهما بهن مثل عمل عبدالله التعايشي. وكثير من أولئك النسوة إمتنعن من الفسق والفجننور بهن فعذبن عذاباً أليماً وضربن ضرباً مبرحاً وحُلقت شعور رؤسهن وكثير منهن فضلن الموت على الحياة ورأيت امرأة أحد السناجك وهي تركية من جهة أبيها وسودانية من جهة أمها انتحرت تخلصاً من العذاب الذي نالها على إثر إمتناعها من تسليم نفسها لعبد الله التعايشي. وضربت إمرأة الشيخ محمد السقّا شيخ القرّاء في الخرطوم وعذبت ستة شهور لإمتناعها من تسليم نفسها إلى عبد الله التعايشي” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، ص: 7)
“والخلاصه ان عدد النساء اللواتي سُبين لايقل عن خمسة وثلاثين ألف فتاة، وشاهد ذلك انك تجد عند أصغر أمير من أمراء المهدي عشرين فتاة أما الأمراء الكبار وأقارب المهدي فإن اللواتي يأخذهن كل واحد منهم يزيد عددهن على العشرين عذراء ولايظنن القارئ أنهم يختلسون أولئك الفتيات بل يأخذونهن بأمر من المهدي او أحد الخلفاء او أمين بيت المال موضحاً في كل أمر اسم الفتاة واسم ابيها وجدها وأوصافها وأنها أُعطيت لفلان غنيمة له يحل له وطؤها بملك اليمين ويجوز له بيعها مالم تصر ام ولد. ومن وجدت عنده من أتباع المهدي إمرأة وليس لديه أمر بالبيانات التي ذكرناها تصادر أمواله ويُقبض عليه ويُعامل معاملة السارق.” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، 7)
“وكان المهدي أصدر أمراً حظر فيه سبي كل أمرأه لها بعل ولكن هذا الأمر كان لايعمل به إلا إذا كانت المرأة طاعنة في السن أو قبيحة المنظر لاتميل إليها النفس، وكان أمين بيت المال يمسك النساء ويفتشهن بعد خلع ملابسهن فمن وجدت سليمة من العيوب أخذت ومن وجدت بها عيب انتهرت وطردت. هذا مجمل مافعله المهدي بسكان الخرطوم من جهة الأموال والأعراض ذكرته بغاية الايجاز لأني إذا تتبعت التفصيل أفنيت الأعوام…” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، ص: 7)
“وأصدر المهدي منشوراً قال فيه إن جميع الذين خرجوا من قيقرة الخرطوم أي (خندق الخرطوم) لايعتبر زواجهم شرعياً لأنه حصل في زمن الفترة التي كانت قبل بعثته وأمر بعقد زواج كل زوجين من اولئك الأسرى وإذا كان في المرأه شئ من الحسن أو بقية من الشباب لايستأنف عقد زواجها بل تؤخذ غنيمة. وكتب أمين بيت المال إلى المهدي يستفتيه في أنه وجد بالخرطوم عتقى اعتقهم مواليهم قبل فتح المدينة بزمن طويل فهل يعاملون كالأحرار أو الأرقاء فأجابه بأن الذين أُعتقوا كفار لا يعتبر عتقهم وأمره بمعاملة اولئك العتقى معاملة الأرقاء.” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، ص: 8)
(هذه المكاتبات موجوده بدار الوثايق القومية في الآثار الكامله للامام المهدي).
“ذكرت أنني أسلمت نفسي ومن معي من الجنود في منتصف النهار فقبضوا عليَّ وأوثقوني كتافاً وساقوني إلى أمين بيت المال يحيط بي نحو مائتي نفر من الدراويش شاهرين سيوفهم وكلهم يصيحون بي ويقولون ياكافر ياعدو الله فالفيته بمنزل أبي بكر الجاركوك أحد أعيان المدينة ووجدت المنزل مملوء بالنساء وهو مشتغل بفرزهن ولما أُوقفت بين يديه كان مشتغلاً بالنظر إلى فتاة فاتنة وهي مجرده من ملابسها وبيدها خرقة تستر بها عورتها وهو يقلبها يمنى ويسرى والدموع تتساقط من جفونها وهي تقول “رضينا بقضائك ياالله”.” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، ص: 8).
“وبعد أن فرغ من أمر الفتاة إلتفت إلى نحوي وقال أعوذ بالله من هذا الوجه الأبيض ثم إلتفت للحراس الذي حولي وقال لهم من هو هذا الكافر فقالوا هو إبرهيم باشا فوزي فقال لماذا لم تقتلوه فقالوا تركناه ريثما يظهر أمواله وأموال غوردون والحكومة ثم صاح بي وقال دلنا ياكافر على هذه الأموال فقلت ان أموالي أُخذت من منزلي وأما أموال غوردون والحكومة فلست موكلاً بحفظها ثم استل سيفه من غمده وتقدم إلي وقال هذا الكافر لايظهر هذه الأموال وقتله خير من استحيائه فأمسكه من حوله وقالوا له ارجئه ريثما نعذبه أو يدلنا على الأموال ثم صاح بالعبيد فطرحوني على الأرض وجلس واحد منهم على رأسي وأمسك إثنان السياط وضرباني حتى كلت سواعدهما فأبدلا باثنين آخرين حتى سال الدم من جسمي وبعد أن تمزق جسمي زجوني في السجن وبقيت ثلاثة أيام فيه يسوقوني للإستنطاق والضرب في غدوه وروحة.” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، ص: 8-9)
“وفي اليوم الثالث اخرجوني من السجن موثوق الكتاف يحيط بي الحراس وارسلوني إلى منزلي فوجدت به أحد الأمراء فجمع أمتعتي وكتبها في ورقه عرضها علي فلم أجد شيئا مفقودا منها ثم قال لي إن الأموال الظاهرة كلها استوليت عليها ولم يبقى غير مايخفى في بطن الأرض فقلت انني لم اخف شيئاً في بطن الأرض فأخذ يوعظني تاره ويهددني تارة اخرى فقلت له انني لم اخفي شيئاً ولم يكن لدي مال غير مااستوليت عليه فساقني ومعي ماخف حملة من الأمتعه الذهبية والفضية والنقود وبعض حلي مجوهره إلى أمين بيت المال فلما نظر إلى قال كيف أبقيتم هذا الكافر حياً حتى الآن فقال له الأمير نحن نؤجل قتله حتى يظهر لنا أمواله وأموال غوردون والحكومه ثم قال أمين بيت المال لذلك الأمير ألم يك عنده نساء فقال له عنده محظيتان حبشيتان أخذتهما لنفسي فقال أمين بيت المال كيف تأخذهما قبل عرضهما علي وأخذ الإذن بهما مني فأجابه الأمير انني اخذتهما بسيفي ولا أطلب من بيت المال غيرهما فقال له قد باركت لك فيهما وملكتك اياهما فشكره وأنا واقف وساعدي موثوقتان كتافاً.” (إبراهيم فوزي، الجزء الثاني، ص: 9)
المصادر:
• مذكرات بابكر بدري (ثلاثة اجزاء).
• مذكرات يوسف مخاييل (تحقيق البروفسور احمد ابراهيم ابوشوك).
• مذكرات محمد عبد الرحيم.
• ابراهيم فوزي (السودان بين يدي غردون وكتشنر).
• منشورات الامام المهدي البروفسور محمد ابراهيم ابوسليم.
كتبه: م/ بشير عبد الرحمن”
(3خاتمة
بناءً على التمهيد أعلاه والنصوص المنقولة نقلاً حرفياً من كتاب إبراهيم فوزي باشا، “السودان بين يدي غردون وكتشنر”، يمكنني إبداء الملاحظات الآتية:
أولاً: إن عنوان النصوص المنقولة، “ما يحدث الآن حدث قبل مائة وثمانية وثلاثون [ثلاثين] عام [عاماً] في سقوط الخرطوم علي يد أنصار المهدي، حقًا نحن أمة لا نتعظ من التاريخ!”، يشي بأن “الناقل” كان يريد إجراء مقارنة بين استباحة الخرطوم الأولى في 26 يناير 1885 واستباحتها الثانية في 15 أبريل 2023؛ إلا أن المقارنة مختلة الطرفين؛ لأن الاستباحة الأولى حدثت على أيد أنصار الإمام المهدي، الذين كانوا يحاربون ضد نظام حكم استعماري، يجلس على قمته البريطاني تشارلس غرودن، ويسانده أهل المدنية دفعاً عن مصالحهم؛ وحدثت الاستباحة الثانية على أيدي قوات الدعم السريع، المتمردة على القوات المسلحة، التي احتلت منازل المواطنين العُزَّل ونهبت ممتلكاتهم، وأجبرتهم على النزوح أو اللجوء، ولسانه حالهم يقول: نقص الأموال والثمرات، أهون عليهم من نقص الأنفس.
ثانياً: إن “ناقل” النصوص المنحولة لم يكن أميناً من الناحية العلمية؛ لأنه أخفى عن القارئ الكريم مصدر نصوصه المنقولة نقلاً صريحاً لا دخنة فيه، وهو كتاب إبراهيم فوزي باشا، “السودان بين يدي غردون وكتشنر”، الجزء الثاني. وردت النصوص المشار إليها في الصفحات من 5 إلى 9، حسب الطبعة الصادرة عن دار الكتب السودانية عام 2010، ولا علاقة لها البتةَ بالمصادر المذكورة في النهاية.
ثالثاً: تقودنا الملاحظتان أعلاه إلى طرح سؤال جوهري، هل إبراهيم فوزي باشا راوٍ عدل حسب معايير الجرح والتعديل؟ ستكون الإجابة بالنفي إذا نظرنا إلى خلفيته المهنية والظروف الصعبة التي عاشها في المهدية سجيناً ذليلاً في سجن الساير بأم درمان؛ ولذلك لا يتوقع منه أن يكون متعاطفاً مع المهدية (وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ*** وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا). وتصفه كتب التراجم بأنه ضابط مصري، عمل في الجيش المصري في جنوب السودان، وعندما عاد غردون حكمداراً عاماً (1877-1879) على السودان عينه مديراً على خط الاستواء؛ إلا أنه اتُهم بعدم الانضباط الإداري، فاستدعي إلى الخرطوم ثم رُحلَ إلى القاهرة. وعاد مرة أخرى إلى السودان في عهد حكمدارية غردون الثانية (1884-1885)، وعمل مستشاراً له إلى أن اُعتقل بعد تحرير الخرطوم عام 1885. وظل حبيس الاعتقال المهدوي إلى أن أُفرج عنه عام 1898، فعاد إلى مصر، وألف كتابه المشار إليه أعلاه، والذي صدرت طبعته الأولى عن مطابع جريدة المؤيد عام 1902. ويقع الكتاب في جزأين رئيسين، ويتناول الجزء الأول تاريخ الحكم التركي المصري في السودان، بتركيز على حكمدارية غوردون الأخيرة (1884-1885)، وحصار الخرطوم وسقوطها في يد المهدي وأنصاره، في حين يتحدث الجزء الثاني عن فترة المهدية التي يصفها المؤلف بالبربرية والتوحش، ويفصّل في تداعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية على المجتمع السوداني في الفترة التي يسميها مجازًا “السودان بين يدي غوردون وكتشنر”. ويقدّم، بعد ذلك، قراءة موجزة عن قيام مؤسسات الحكم الثنائي، وكيفية تمكنها من إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع سودان وادي النيل. ويلحظ القارئ المتبصر في ثنايا الكتاب أن الكثير من المعلومات التي أوردها إبراهيم فوزي باشا محل نظر، إذا ما قورنت بأشباهها ونظائرها من المصادر الأخرى.
رابعاً: نقد النصوص المنحولة من كتاب إبراهيم فوزي باشا لا ينفي أنَّ أنصار المهدي قد استباحوا مدينة الخرطوم في 26 يناير 1885، وقتلوا أعداداً غفيرة من أهلها، وسبوا عدداً من نسائها. والدليل على ذلك قول إسماعيل بن عبد القادر الكردفاني، مؤلف كتاب “سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي”،: “واستمر القتل في الأعداء من لدن طلوع الفجر إلى قرب الضحى، حتى أحمَّر بساط الأرض من دماء الرجال، وامتلأت الدروب والسكك بجيف القتلى. وقتل في هذه الوقعة من الترك وغيرهم ممن انضم إليهم ما لا يعلم عدده إلا الله تعالي. (إسماعيل بن عبد القادر الكردفاني، “سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي”، تحقيق محمد إبراهيم أبوسليم، بيروت: دار الجيل، 1982، ص: 350-351).
خامساً: إنَّ السردية التاريخية الموضوعية لأحداث القتل والسبي والدمار التي شهدتها مدينة الخرطوم بعد تحريرها في 26 يناير 1885 يقدمها محمد إبراهيم أبوسليم في كتابه عن “تاريخ الخرطوم”، الذي صدرت طبعته الأولى عن مطبعة الجامعة الخرطوم عام 1970. وتتمثل موضوعية أبوسليم في اطلاع على كم هائلٍ من المصادر الأولية واستئناسه بشهادات أنصار المهدية وأعدائهم الذين عاصروا فترة التحرير. ونتيجة لذلك تكون سرديته هي الأقرب إلى الواقع.
سادساً: كلما ذُكر أعلاه، يقودنا إلى نتيجة مفادها أن الأحداث التاريخية يجب أن تحلل في إطار سياقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ وإخراجها من هذه السياقات التأسيسية وتحليلها في فضاء سياقات أخرى يفقدها الجانب الموضوعي، كما يسهم في تغبيش رؤية القراء غير المتخصصين في التاريخ، ويدفع بعضهم إلى استثمار الروايات المضللة لخدمة أجندة سياسية معاصرة، وبموجب ذلك تفقد المعرفة التأريخية مصداقتها وحدسها التوثيقي. وخلاصة ذلك، أن المعرفة التأريخية الموثقة تساعد القراء، باختلاف مشاربهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، على فهم الماضي، واستيعاب الحاضر، واستشراف المستقبل بصورة أفضل.