ذكريات رمضانية : يحيي السويد / ٣ /
ذكريات رمضانية : يحيي السويد / ٣ /
قبلَ أن تنعمَ بلدتنا بالكهرباء كنا نحسدُ ذلكَ الرجل الذي يملكُ جهازاً عجيباً ، يضيئُ بيته وهو ليس كضوءِ لكس الكاز مصدر الضوء الوحيد في البيوت
، والذي كنا نتاوبُ في البيت على إشعالهِ وإطفاءهِ كلَّ مَغيَبَ شمس ، وحينَ تنتهي السهرة .
لم نعرف أو نسمع عن هذا الجهاز العجيب ، وتبيَّن لنا لاحقاً أنه مولدةٍ صغيرة تعمل على البنزين .
كان حسدُنا لهذا الرجل يتضاعفُ في ليالِ رمضان الصيفية ، خاصةً وأنًَ هذا الرجل من أبناء الدولة ، وأَنَه يملكُ جهازاً تُرى فيه صور متحركة ، ولم نكن قد رأيناه أو سمعنا به من قبل أيضاً ، وهو تلفزيون أسود وأبيض من ماركة سيرونيكس الحكومية .
كنَّ قد سمعنا أن الدولة فتحت بابَ التسجيل على هذا الجهاز العجيب للموظفين وخاصةً المعلمين ، على أن تستوفي ثمنه تقسيطاً من الراتبِ الذي كانوا يتقاضوه شهرياً ، بينما الغالبيةُ ونحنُ منهم من أبناءِ طبقةِ العمال والفلاحين لم يشملنا ذلك .
استلمٓ المحظوظينَ من الطبقةِ الأولى تلفزيوناتهم قبلٓ وصولِ الكهرباء إلى البلدة ، فألبسوها ثياباً مزركشةً وصمودوها في غرفةِ الضيوفِ التي صارت مزاراً للناس ، بانتظارِ وصول الكهرباء إلى البلدة .
في ذلكٓ الوقت كان بناءً الفرقةِ الحزبية والبلدية ، عبارة عن عليّة مستأجرة مقابل مدرسة أبي بكر الصديق حالياً ، وكان من الطبيعي أن تملكُ البلدية مولدة ، وبما المسؤولينٓ من طبقة الموظفين فإنهم حصلوا على التلفزيون .
قرٓرٓ أحدهم أن يُحِضرٓ تلفزيونه من البيت ، ويجعلٓ منه سينما مجانية لأهل البلدة ، فكانَ يضعه على حافةِ السطحِ كل يومٍ بعدٓ الإفطار .
في تلكٓ الأثناء كانَ التلفزيون السوري ذو القناةِ اليتيمة يَعْرضُ مسلسلاً بدوياً إسمه (فارس و نجود ) من بطولة محمود سعيد و سميرة توفيق ، التي كان صوتها حينذاك و
يملئ الدُّنيا ويُشغل الناس ، ولمَّا عَلِمَ أهلُ البلدةِ بالخبر هبوا عن بكرة أبيهم لمشاهدةِ هذا المسلسل .
افترشَ الناسُ الأرضَ مكانَ الصفوفِ الغربيةِ من مدرسة الصديق ، والتي لم تكن قد بُنيت حينها ، وكانت المدرسة تقتصرُ على البناءِ الشرقي القديم ، وكانَ يُطلقُ على هذه المدرسة اسم ( المَكْتَب )
منظرّ مُهيب العشرات من العائلات تُعلقُ أنظارها على الشاشةِ السحرية ، تتفاعلُ بأحداثِ المسلسل ، والذي
كانت الحلقة الواحدة منه تمتدُ لأكثرَ من ساعة ونصف ، بسبب كثرةِ الإعلانات التي تقتحمُ الحَلَقة .
بعدَ إنتهاءِ حلقةِ كلَّ يوم يعتذرُ المسؤول بلطفٍ من الموجودين ويغلقُ التلفزيون بانتظار اليوم التالي .