لم تشهد ساحة الغناء في السودان حالة غنائية متلازمة كتلك التي انعقدت بين العملاقين (عثمان حسين ابوعفان وحسين بازرعة).
لم تشهد ساحة الغناء في السودان حالة غنائية متلازمة كتلك التي انعقدت بين العملاقين (عثمان حسين #أبوعفان وحسين بازرعة). فـ (بازرعة) الذي قدِم من شرق السودان مثل حالة خاصة وفتحاً غير مسبوق في الأغنية العاطفية، حيث جعل لها ألقاً بهياً من خلال أعماله التي قدمها في نهاية أربعينيات القرن المنصرم بأصوات شابة، أبرزها (عثمان حسين، أحمد المصطفى، عبدالعزيز داؤود، وآخرون.
صعد بازرعة سماء الشهرة حتى بلغ حداً جعله محط إعجاب لا نظير له في الوسط الفني الذي قابله في بادئ أمره بتوجس مريب بسبب أشعاره المخالفة للسائد في ذلك الوقت، إذ جاءت مزيجاً من الفصيح و(الدراجي) في قوالب شعرية مبتكرة ومعان مستحدثة لم تشخ إلى يومنا هذا. ورغم أن حياة بازرعة لم تكن هانئةً بالاستقرار فهو الذي عاش متنقلاً لكنه طوع هذا الترحال في مصلحة مشروعه الغنائي الذي شيده على أرض صلدة .
شاعر الواقعية والسحر
لم يكن بازرعة متفرداً في نظمه فحسب، بل أستطاع يمنح مفردات مثل، النجوى، البكاء، والوشاية، والهجران، والشكوى، الضنى، النكران، الحسرة، والعتاب، والنهاية بعداً جمالياً تمثل في عاطفة دافقة تخطت المتاريس المجتمعية قبل أكثر من خمسين عاماً، فأنتجت شعراً غنائياً لم تجد به قريحة أحد من قبله:
“لي متين يلازمك في هواك مر الشجن/ ويطول بأيامك سهر ويطول عذاب/ يا قلبي لو كانت محبتو بي التمن/ يكفيك هدرت عمر حرقت عليه شباب/ لكن هواه أكبر وما كان ليه تمن/ والحسرة ما بتنفع وما بجدي العتاب”.
على هذا النهج عاش بازرعة يحمل مشعل رسالته يطوف به بين العالمين ينثر الحب ويزرع الخير في الأرض اليباب المغفرة.
“كل زادي في ضياعي/ قلبي مفتوح للأحبة/ للجمال الأشجى روحي/ في شعوري سحره شبه ورسالة فني سامي/ تدعو للخير والمحبة”.
بجانب رسالته السامية ونثره للحب ظل (بازرعة) يمزج بين الضدين في سلاسة وواقعية دون الإخلال بتوازن مفرداته أو تزييف لعواطفه، فهو السائر دون هوادة على نهجه الذي خطاه لنفسه بيقين يسير عليه رغم التعرجات العاطفية التي لم يستقم طريقه بدونها حتى تظهر أمامه على مرمى خطوة “ما بإيدي، لو ضباب الغيرة أعماني وزيف لي الحقيقة/ إنت نبع حناني، إنت كياني، إنت الدنيا، بهجتها وشروقها / وإن حصل زلت خطايا معاك، أو ضلت طريقها/ هل تصدق تنـتهي قصتنا، يا أجمل حقيقة”.
العيش بمقدار
حفلت حياة (بازرعة) بالكثير من الحوادث الجسام وعلى رأسها الاغتراب الذي خطف أنضر سنواته مما كان له الآثر الكبير على إنتاجه إبداعي.
“كل طائر مرتحل عبر البحر قاصد الأهل/ حملتو أشواقي الدفيقة/ ليك ياحبيبي للوطن لترابه لشطآنه/ للدار الوريقة”.
وبسبب هذه الغربة القاسية لم يكن (بازرعة) مقبلاً على الحياة بفوضوية فهو دقيق في كل شيء، ولا يتحرك إلا بمقدار يكاد يحصى أنفاسه، فهو مقلاً في الحديث ومقلاً في صداقاته وعلاقاته الاجتماعية، حتى يكاد يعيش حياته داخله، ولذا يمكن القول إن (بازرعة) في هجرته وضع مقداراً لكل شيء في حياته عدا واجب الحب الذي أفرط فيه حتى كاد أن يسقطه عن الأخرين من خلاله تجوال عاطفي لم يخفه عن من يحب مطلقاً “في حياتي قبلك أنت/ عشت قصة حب قاسية/ لسه ما زالت بقلبي/ زكرياتها المرة باقية/ لما هليت في وجودي/ و قلت بيك سعادتي باقية / لكن أنت هدمت أملي/ بعد عشره نبيلة سامية”.
وحالة العشق التى تمثلها (بازرعة) جاءت باذخة بعطائها الإبداعي، صادقة في مضمونها الإنساني من منطلق الرسالة التي تحملها، ولهذا ظل (حسين بازرعة) على حالته الوجدانية كواحد من القلة الذين ساروا على نهجهم دون نكسه حتى نهاية رحلة إبداعه.
الحب العذري والروح الملائكية
انضباط (بازرعة) في الحياة جعله واقعياً في شعره رومانسياً في مفرداته وعذرياً في حبه، يتضح هذا بجلاء في الكثير من أشعاره التي كشفت عن صفاء سريرته ونقاء نفسه، فهو الذي لم يعرف عنه ساقط القول ولا فاحش الشعر “عشقتك وقالوا لي عشقك حرام/ يا مجدد نور عيوني/ يا مبدد نار شجوني/ ليتهم عرفوا المحبة/ وعرفوا أسرار الغرام”.
وهذا التمني النبيل يلحق به رجاء واستعطاف آخر شبيه بالتوسل غارقاً في الشجن، محسوراً بلا فجيعة وقائماً بلا إنحناء “لا تسل عنى ليالي يا حبيبـــــي لا تسلني /لا تسلها فهي حلم عابر طاف بذهني/ لا تسلها كم تعانقنــا علــى رقة لحن/ وقضينا الليــلة الأولـى حديثا وتمني/ لا تســل عنــي ليالــي فقد بتنا حطاما/ كم حرقناها شعـــورا وأماني وغراما/ وســـل الشاطئ لما كنت ألقاك دواما/ ونذيب الليل همسا وعناقـــا ومـــلاما”.
شاعر الأناقة والحضارات
ولد بازرعة الذي كان شديد الوسامة بمدينة بورتسودان في العام (1943) . وترجع الجذور الباكرة للشاعر (بازرعة) إلى الجزيرة العربية فهو ذو جذور يمنية (من حضرموت)
……