الأعمدة

الجيش السوداني مفرخة للمليشيا

 

مرّ عام على الحرب في السودان، وأكثر ما يلفت النظر فيها، غيرُ الدمار الكبير في العاصمة الخرطوم وما خلّفته المعارك من ملايين النازحين، في داخل البلاد وخارجها، التناسل الكثيف “من رحم القوات المسلّحة السودانية”، كما كان يحلو لقادة الجيش أن يردّدوا في أيام دفاعهم المُسْتَمِيت عن قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فقد تناسلت “رحم الجيش”، هذه المرّة، لتنثر في أرض السودان مليشيات عديدة، بأسماء مختلفة.
أول هذه المليشيات، التي أعادها الجيش إلى الواجهة، ما بقي من حركات دارفور، التي قاتلت الجيش الحكومي: حركة العدل والمساواة بقيادة وزير المالية، جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان، بقيادة مني أركو مناوي. حركتان أغلب أعضائهما من الحركة الإسلامية، اصطفّتا إلى جانب رئيس حزب المؤتمر الشعبي السوداني، في حينه، الراحل حسن الترابي (2016)، بعد الانشقاق الكبير في الحركة الإسلامية الحاكمة، وفي مواجهة تلميذ الترابي، علي عثمان محمد طه. كذلك، أعاد الجيش إلى الواجهة الزعيم القبلي، موسى هلال، الذي أُقصيَ من قيادة “الجنجويد” لمصلحة قريبه حميدتي، وأعلن هلال، المؤسّس الأول لهذه المليشيا، القتالَ إلى جانب الجيش السوداني في مواجهة ابن عمّه، قائد “الدعم السريع”، حميدتي. ومهمٌّ القول إنّ “الجنجويد” قامت حائطَ صدّ استعانت به حكومة عمر البشير لامتصاص الغضب الدولي، واتهامات المحكمة الجنائية الدولية لقيادات في الحركة الإسلامية (علي طه وعمر البشير) بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية في دارفور. أضف إلى ذلك مجموعاتٍ أخرى تتبع نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، مالك عقار، قائد “الحركة الشعبية – شمال”، ومجموعات أخرى مُنشقّة عن الحركات المسلّحة، التي شكّلت جبهة الشرق وأُهّلَت بإشراف قيادة الجيش في مدينة كسلا في شرق السودان.

أكثر هذه المليشيات أهمّية كتيبة البراء، التي تتبع مباشرة الحركة الإسلامية، تحظى بالدعم الأكبر سياسياً، وبرعاية مباشرة من قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، وتحظى بالتمويل والتسليح، وبدعاية إعلامية مكثّفة، حتى تقدّم دورُها دورَ الجيشِ نفسِه. فعند استعادة مقرّ الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون في أمّ درمان (مارس/ آذار 2024)، ومع أنّ الظاهر أنّ الجيش هو من استعاد المقرّ، إلا أنّ الضجّة الإعلامية نصّبت كتيبة البراء فاعلاً رئيساً، ونسبت إليها الفضل في استعادته. وثمّة ظهور آخر أعظم خطراً، لمجموعة تنتسب إلى الحركة الإسلامية، لم تحمل، اسماً، بل عَمَّدَتْ حضورها الحرب بأعمال مستفزّة، فرفعت رؤوس قتلى “الدعم السريع” التي قُطِعَتْ، وأطرافهم التي بُتِرَتْ، ما أثار امتعاضاً واستهجاناً واسعاً داخل السودان. أضف إلى هذا كلّه طيفاً من المليشيات المسلّحة، من مدنيين استجابوا لدعوة الجيش إلى القتال معه.

ذاً، يتعمّد النظام القديم، الذي تقوده الحركة الإسلامية، نشر المليشيات والسلاح بكثافة، ظنّاً أنّها الطريقة المُثلى لاستعادة الحكم الذي أطاحته ثورة ديسمبر (2019)، وبقوة السلاح. أين مكمن الخطر هنا؟ الإجابة المباشرة تكمن في تفاصيل كلّ مكوّن لهذه المليشيات، التي تتشارك في أنّها مجموعات مُنشقّة عن حركات مسلّحة، كما في حالة “العدل والمساواة”، وحركة تحرير السودان، و”الأسود الحرّة بشرق السودان”، ومجموعة البجا. بمعنى أنّنا أمام مشهدٍ يتقاتل فيه الكلّ ضدّ الكلّ. والجديد هنا أنّ أرض المعركة ليست دارفور، التي هي تحت قبضة “الدعم السريع”، بل شرق السودان، الذي لم تطاوله بعد ألسنة لهب الحرب الحالية. في أرض الواقع، تكبّدت هذه المليشيات والمُسْتنْفِرون المدنيّون خسائر فادحة، قتلاً وأسراً، في آخر العمليات العسكرية ضدّ “الدعم السريع”. وهذا يقود إلى السؤال: لماذا يلجأ الجيش، الذي طالما ادّعى أنّه قادر على حسم سريع للمعركة ضدّ قوات الدعم السريع، إلى نشر السلاح وسط المدنيين؟ وما قدراته الفعلية لمقارعة “الدعم السريع” من دون إقحام مزيد من المدنيين في الحرب؟

الثابت، أنّ قوات الدعم السريع لا تزال، بعد مرور عام، متفوّقةً على الجيش، بحكم المساحة الخاضعة لسيطرته، وبحكم المواقع الاستراتيجية التي يتحكّم فيها. لكن، في غياب أيّ سلطة حكومية حقيقية، يبدو أن الجيش، الذي يفترض أنّه يقود هذه الحرب باسم الشعب، لا يضع أيّ اعتبار للشعب. ومع أنه وجّه أحاديث كثيرة وجّهها إلى الشعب، إلا أن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، لم يُفسّر لماذا الحرب، وكيف الخروج منها ووضع حدّ لآلام ملايين من السودانيين. والواضح أنّ قيادة الجيش لا تكترث بأمر الشعب، بدليل أنّه لم تصدُر خريطة طريق لكيفيّة وقف الحرب وحقن الدماء، في حين أنّ قائد “الدعم السريع” يبدي موقفاً واضحاً وثابتاً يقبل وقفَ الحرب، والتفاوض لأجل السلام.
ليس في الطريق التي تسير فيها قيادة الجيش إلا المُجرّب تاريخياً، براعة تكوين مليشيات تقاتل بعضها بعضاً، فيما يتنصّل الجيش مما هو في صميم واجباته؛ صون الوطن والمواطنين. وأكثر ما يخشاه الناس، أن يقود وجود المسلّحين والسلاح في شرق السودان إلى انفجار، ستكون له، قطعاً، عواقب وخيمةٌ للغاية، بحكم التعدّد العرقيّ والقَبَلِيّ هناك، وامتداداته شرقاً حتى إريتريا وإثيوبيا، وشمالاً حتى مصر. فمتى تستفيق قيادة الجيش من وهم مطاردة أشباح حرب بلا نهاية؟.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى