الأعمدة

وجه الحقيقة.- محمد المكي إبراهيم من يشتري للجرح غمدآ وللأحزان مرثية.- إبراهيم شقلاوي

.نحن من جيل محظوظ في هذه الدنيا نحمد الله على ذلك .. فقد عرفنا مكتبة الحي ونادي المشاهدة والسينما والمسرح وأندية كرة القدم ومسجد الشيخ الفاتح، والنشاط المدرسي، والرحلات الجماعية، كل هذه العناوين عرفناها تفاعلا وحكاية وأنس بكل عافيتها وعنفوانها.. حيث ظلت هناك شخصيات خالدة في الذاكرة مرتبطة بكل مكان من هذه الأمكنة حين نتحدث عنها جميعا يكفي أن نتحدث عن معلمنا عبد الرحيم نيشن.. يعرفه ذلك الجيل الذي نشأ وترعرع في حي الثورة الحارة السابعة بامدرمان، التي جئناها من حي ودنباوي وحي العمدة بعد إنتقال تطاول أمده لنحط رحالنا في السكن المستقر الأمن الذي وفره والدنا عليه رحمة الله في تلك الفترة من نواضر العمر.، ذلك الموظف المجتهد الذي كان يعمل في وقاية النباتات حيث ظل يتنقل ضمن فريق العمل المكافح لأسراب الجراد والآفات من قرية إلى قرية ومن ريف إلى ريف حتى طوي السودان خلال اسافره .، كان أستقرارنا بعد رهق في ذلك السكن الوريف حيث الصحبة الجميلة والبيوت المفتوحة للجميع والجيران الذين لا تملهم ولا تستطيع مكافأتهم إلا بالتحية والابتسامة الدائمة .. كان الجميع أسرة واحدة رغم اتساع الحي واتساع المكان والزمان، تختزن الذاكرة الكثير الجميل لكن دعوني أحدثكم عن مكتبة الحي وعن النشاط الثقافي والفكري والسياسي وعن صانع الجيل عبد الرحيم نيشن ، ذلك الذي كان يدرك أهمية الكتاب في حياة الناشئة، حيث أقام مكتبة ضخمة في نادي الحي حيث روضة ماما سعاد وفي بيته ضاق بها المكان تحوي آلاف الكتب بعضها كان يأتيه مباشرة من بيروت التي كانت تطبع في سخاء ، وكنا نقرأه في الخرطوم في تدبر ووعي، بعد أن تكتب القاهرة بحرفية عالية وموهبة تزاحم الآفاق.، عرفنا العقاد، وأنيس منصور، ويوسف ادريس، وعرفنا عاطف العراقي، والطاهر وطار، وعبد الرحمن منيف، وفتحي يكن، وعلى شريعتي، كذلك عرفنا (كولن ولسن) و( مكسيم جوركي)، بين هؤلاء الأفذاذ كان لا بد أن نعرف الطيب صالح، وحسن نجيلة، ومعاوية محمد نور، ومصطفى سند، وسيف الدسوقي، وهاشم صديق.. كانت تلك حياتنا تنهل من كل المشارب، لكن المعرفة التي ادهشتني ووقفت عندها فترة من الزمن كانت حينما قرأت ذلك الديوان الزاهي المصمم باللون البنفسجي والأبيض، الصادر في طبعته الأولى كما يبدو عن إحدى الدور البيروتية.. كنا حينها نبحث عن الكلمات العذبة وعن الفكرة الرصينة وعن المضمون الذي يلهب حماسنا تجاه القضايا الإنسانية والوطنية.، كنا مولعين بالقراءة والنشاط الثقافي والسياسي.، لذلك كان ديون( أمتى) للشاعر السوداني الدبلوماسي الفذ محمد المكي إبراهيم، وكانت تلك الكلمات هي ماجعلت عيناي لا تفارق السطور.، حيث الكلمات قوية ذات جرس لا تترك لك مجال سوى الاسترسال في زهو وكبرياء كأنك أنت المخاطب بها.، أمتي الوعى والحلم والغضب..، الليلة قومى فى حارات الشمس..، حفاة الرأس.. بغير سجاجيد ولحى..، مرحى في وقت عبادتهم..، وبقلب الموسم يا مرحى..، في مرج أعشب رمانا..، أينع شبعا ريا، فرحا.. وبساعة لهو يا الله.. كنا منقذف بالأثمار.، كنا في ذلك العمر الذي يستقبل الحياة ويطلق العنان للطموح كنا عند أولى عتبات الشباب.. ربما لا ندرك كل معاني الكلمات لكن مؤكد أنها كانت تحدثنا عن عظمة الوطن جغرافية وإنسان وتاريخ وقيم .. منذ تلك اللحظة وبعد تلك الكلمات المعبرة التي حواها ذلك الديوان الشعري أقمت علاقة راسخة مع الأدب والشعر والثقافة والفكر .. ثم جاء الإبحار في عوالم محمد المكي إبراهيم الدبلوماسي الأديب الصوفي المتبتل في خشوع..، في تجربته الشعرية الضخمة كنا مجموعة من الأصدقاء محمود عبد الرازق، الفاضل ابوعبيدة، صديق عبد الرحمن، سنادة هاشم، هشام تاج السر، وغيرهم.، نتننقل بين قصائده كما يتنقل الفراش بين الأزهار نتبارى في حفظها وادراك معانيها كنا نحفظ عن ظهر قلب عناوين الدواوين، أمتي الوعي والحلم والغضب،وخباء العامرية، وبعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت، مدينتك الهدى والنور في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأخريات ربما يضيق المجال عن ذكرها مثلت جميعها محطاتنا في الوعي بالكلمة كما مثلت تجربة ذلك الدبلوماسي الفذ إبن السودان المولود في الخرطوم في العام 1939 والذي مثل السودان بكل جغرافيته وتميز معالمه محمد المكي إبراهيم إبن الصحراء والنيل.. تخرج من جامعة الخرطوم في كلية القانون ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليتخصص في العمل التنموي، يعد ود المكي من أبرز الشعراء والمفكرين السودانيين الذين ساهموا في تعزيز وحدتنا الوطنية أثرى الأدب السوداني منذ ستينات القرن الماضي تميز بالعمق والموضوعية ورصانة الكلمة، عرف بحبه لهذا البلد السودان حيث ظل مهموما بإنسانه وبالقضايا الوطنية والاجتماعية والسياسية، لذلك حين يأتي الحديث عنه لا نستطيع أن ننسى رائعته الملحمة أكتوبر الأخضر، باسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب ايمانا وبشرا.. وعلى الغابة والصحراء يلتف وشاحا.. وبأيدينا توهجت ضياء وسلاحا.. فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا، سندق الصخر.. حتى يخرج الصخر لنا زرعا وخضرا، ونرود المجد..حتى يحفظ الدهر لنا إسما وذكرى.. كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل..كان خلف الصبر والأحزان يحيا..صامدا منتظرا حتى إذا الصبح أطل.، رحل شاعرنا المفكر الوطني الجسور في زمن التحديات والمحن والإبتلاء والعدوان على بلادنا وشعبنا وهو يتحسر على أبناء هذا الوطن الباذخ السودان الذين تركوا المؤامرة الدولية والإقليمية تفت عضضهم وتبعثر شملهم ، يظل وجه الحقيقة في القول بأن رحيل ود المكي يعتبر رحيلا مرا على السودانيين أجمعهم بعد أن ترك خلفه لأجيال السودانيين تراثا عظيما من الأعمال الوطنية والثقافية والفكرية التي تميزت بإعلاء القومية الوطنية والقضايا الإجتماعية والسياسية ، بجانب المحافظة علي هويتنا السودانية وإنتماءنا الوطني ترك ود المكي أعمالا خالدة تعكس التفاعل الثقافي بين تراثنا السوداني والحداثة.. إن رحيل ود المكي بالأمس القريب أثر علة مرضية.. قد ترك فراغا ضخما في الوجدان القومي والمكتبة السودانية.،محمد المكي إبراهيم من يشتري للجرح غمدا وللاحزان مرثية. ألا رحم الله شاعرنا المفكر الصوفي الكبير محمد المكي إبرهيم وغفر له و اسكنه الفردوس الأعلى مع الصديقين والنبيين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.. خالص تعازينا لاسرته الصغيرة والكبيرة ولمحبيه وتلاميذه ولكافة الشعب السوداني
إنا لله وإنا إليه راجعون.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 م. Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى