الذكرى الستون لثورة أكتوبر 1964 – تاج السر عثمان بابو
تمر الذكرى الستون لثورة أكتوبر 1964 والبلاد تشهد حربا ضروسا أحدثت دمارا في البنية التحتية وأدت لفقدان الآلاف من الأرواح، ونزوح الملايين داخل وخارج السودان وتدهور غير مسبوق في الأوضاع المعيشية والصحية والإنسانية، وقمع ومصادرة للحقوق والحريات الأساسية وإبادة جماعية وتطهير عرقي في غرب دارفور واغتصاب للنساء وغير ذلك من مآسي الحرب التي رصدها تقرير اللجنة المستقلة لحقوق الانسان، وحسنا تم قرار بمد فترة عمل اللجنة لاستكمال رصد جرائم الحرب، مما يتطلب قيام الجبهة الجماهيرية القاعدية لوقف الحرب واسترداد الثورة واستعادة وترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، وإنجاز مهام ثورة ديسمبر المجيدة.
بعد الاستقلال كان من المفترض استكماله بالاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بانجاز مهام النهضة الوطنية الديمقراطية وبناء المجتمع الصناعي الزراعي المتقدم، لكن ذلك لم يحدث، ونشأت الأزمة الوطنية العامة التي بدأت بنقض العهود والمواثيق بعدم اعطاء الحكم الفدرالي للجنوبيين والقسمة الضيزى في وظائف السودنة مما أدى لانفجار تمرد 1955، واشتدت ضغوط حزب الأمة الذي لم يقبل بهزيمته أمام الحزب الوطني الاتحادي بزعامة اسماعيل الأزهري في انتخابات 1954 على الحكومة الوطنية الأولى التي بدأت بأحداث مارس 1954 يوم افتتاح البرلمان بحضور الرئيس المصري اللواء محمد نجيب التي راح ضحيتها عدد من المواطنين، كما حدثت مجزرة عنبر جودة التي راح ضحيتها عدد من المزارعين في ظروف حبس غير انساني، وواصل حزب الأمة ضغوطا على الحكومة، وتم لقاء السيدين بهدف اقصاء حكومة الأزهري الذي بدأ يأخذ مواقف مستقلة عن الطائفتين، وبهدف حماية مصالح الطائفتين الاقتصادية، وتحت الضغوط تمت ازاحة الأزهري بعد انقسام الحزب الوطني الاتحادي بخروج حزب الشعب الديمقراطي منه، وتكونت حكومة السيدين الائتلافية والتي فشلت في تحقيق الاستقرار، والدستور الدائم، ووقف الحرب، وحل الأزمة الاقتصادية والمعيشية، اضافة لحرق العملة لأن فيها توقيع الزعيم الأزهري!!، ولم يتم الاعتراف باتحاد العمال واشتدت المحاولات لشق الحركة النقابية من الحكومة التي فشلت.
أدى كل ذلك لتكوين جبهة عريضة ضمت الحزب الشيوعي، اتحاد نقابات عمال السودان، اتحاد المزارعين، اتحادات الطلاب، الحزب الفدرالي الجنوبي الذي دعا ميثاقها الى: الغاء القوانين المقيدة للحريات، رفض المعونة الأمريكية التي باركها حزب الأمة، السيادة الوطنية وتأكيد التزام السودان بالحياد الايجابي، صياغة دستور قومي ديمقراطي. الخ.، كما حدث الاضراب العام لاتحاد العمال في 21 أكتوبر 1958 لتحسين الأجور والاوضاع المعيشية التي تدهورت، والاعتراف باتحاد العمال.
مع اشتداد المقاومة والرفض الواسع لحكومة عبد الله خليل التي كان من المتوقع سحب الثقة عنها في جلسة البرلمان في 17 نوفمبر 1958، وفي هذه اللحظة سلم عبد الله خليل رئيس الوزراء الحكم للفريق إبراهيم عبود.
* كانت ثورة أكتوبر نتاجا لتراكم نضال الشعب السوداني طيلة الست سنوات من الحكم العسكري شارك فيه: العمال، المزارعون، المرأة السودانية، الطلاب، المثقفون، الشعب النوبي ضد التهجير، القوات المسلحة الوطنية، جبهة أحزاب المعارضة، إضافة لصمود المعتقلين في السجون وأمام المحاكم، واستمر هذا التراكم والزخم النضالي حتى لحظة الانفجار التي كانت ندوة جامعة الخرطوم شرارتها التي استشهد فيها الطالب احمد القرشي، وبعدها اشتعلت الثورة، وتم الاضراب السياسي العام والعصيان المدني الذي قادته جبهة الهيئات التي تكونت من النقابات والأحزاب السياسية حتى تمت الاطاحة بحكم الفريق عبود (للمزيد من التفاصيل: راجع كتاب ثورة شعب، ست سنوات من النضال ضد الحكم العسكري، اصدار الحزب الشيوعي 1965).
* كان من أهم دروس تجربة أكتوبر تجربة الاضراب السياسي العام والعصيان المدني الذي أصبح سلاحا في يد الجماهير لاسقاط النظم الديكتاتورية، كما حدث في انتفاضة مارس– ابريل 1985، وثورة ديسمبر 2018 التي كانت اوسع بتجربتها في الاعتصام، وموكب 30 يونيو 2019 بعد مجزرة القيادة العامة التي ما زالت اسر الشهداء تنتظر نتيجة التقصي فيها وتقديم المجرمين للعدالة ومتابعة المفقودين.
* أكدت ثورة أكتوبر أن ساعة التغيير لأي نظام ديكتاتوري لا تحددها رغبة هذا الحزب أو ذاك، بل تتحدد بتوفر الظروف الموضوعية والذاتية (أو نضج الأزمة الثورية) التي تحددها:
– عجز النظام عن الحكم وتفككه وعمق الصراعات داخله، بحيث يصبح من العسير قمع الثورة، ووصول الجماهير لحالة من الضيق بحيث تصبح الحياة لا تُطاق تحت ظل النظام الحاكم.
– وجود القيادة الثورية التي تطرح البديل لنظام الحكم.
– وجود الجيش الثوري الذي على استعداد لمواصلة الثورة حتى النصر.
وتلك هي نظرية الثورة السودانية التي أكدتها ثورة أكتوبر 1964 وتجارب الثورة المهدية 1881، وانتفاضة مارس– أبريل 1985، وثورة ديسمبر 2018.
* أحدثت ثورة أكتوبر تحولات كبيرة في المجتمع السوداني وهزت ساكن الحياة في القطاعين الحديث والتقليدي، وفتحت الطريق للتحول الديمقراطي رغم الانتكاسة، وشاركت المرأة بشكل أوسع في البرلمان والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والرياضية، وشقت جماهير القطاع التقليدي أو الريف السوداني طريقها للمطالبة بالتنمية والاصلاح الزراعي الديمقراطي، والتعليم والصحة والخدمات البيطرية والمياه والكهرباء، والاصلاح الاداري والقبلي، وقامت تنظيماتها لذلك الهدف مثل: جبهة نهضة دارفور، اتحاد أبناء جبال النوبا، اتحاد شمال وجنوب الفونج، وقبل ذلك تاسس مؤتمر البجا في أكتوبر 1958، كما قام مؤتمر المائدة المستديرة 1965 الذي لم يصل لحل لمشكلة الجنوب، ولكنه كان فرصة للتعرف على وجهات نظر الجنوبيين وطريقة تفكيرهم. وانتشرت الأندية القبلية في المدن لتطوير مناطقها ومساعدة إبنائها وبناتها في المدن.
كما أكدت أن الحقوق والحريات الديمقراطية عامل مهم لجذب الجماهير للنشاط السياسي والتغيير الاجتماعي، وأن الحقوق الديمقراطية لا تنفصل عن التغيير الاجتماعي.
* من نواقص ثورة أكتوبر، لم يكن للجماهير افق للتغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بعد الثورة، ولكنها اكتفت بانهاء الحكم العسكري والعودة للديمقراطية البرلمانية التي أجهضتها الأحزاب التقليدية. وكانت القوي المضادة للثورة اسرع من قوي الثورة، لأن الحكم العسكري أبقي علي مصالحها الطبقية، وقام الحكم العسكري اصلا لحماية مصالح قوي اليمين الطبقية، كما كان من عناصر الضعف عدم تمكن الجماهير من حماية الثورة، عندما شهرت القوي المضادة للثورة بمليشياتها السلاح في وجهها.
* رغم انتكاسة ثورة اكتوبر، الا أن جذوتها ما زالت متقدة، ومن المهم عدم التقليل من أهميتها، فهي تجربة وذخيرة ورصيد مفيد لشعب السودان، وكان لها انجازاتها في استعادة الحقوق والحريات الديمقراطية التي كرّسها دستور 1956 المعدل 1964، وإلغاء قانون النقابات 1960، إجازة قانون النقابات 1966 الذي اعترف باتحاد العمال، دعم حركات التحرر الوطني في العالم وموقف شعب السودان الرافض لهزيمة يونيو 1967، وقيام مؤتمر القمة العربي في الخرطوم في أغسطس 1967 الذي خرج بلاءاته الثلاثة: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف باسرائيل، إلغاء قانون الجامعة لعام 1960، اطلاق سراح المعتقلين وعودة الضباط المفصولين في ظل الحكم العسكري، صدر قانون الانتخابات 1965 الذي أعطي النساء حق الترشيح. الخ.
* واجهت ثورة أكتوبر، المؤامرات التالية: الضغوط على حكومة سر الختم الخليفة رئيس الوزراء ومحاصرته بالمليشيات المسلحة حتى تمّ اجباره على الاستقالة، وفرض الانتخابات المبكرة قبل انجاز مهام الفترة الانتقالية، وعدم مشاركة أغلب جماهير المديريات الجنوبية بسبب الحرب، أحداث الأحد الدامي التي راح ضحيتها عدد من الأشخاص، المحاولة الانقلابية في 9/ 11/ 1964 (التي تمت مقاومتها في ليلة المتاريس) وتم اقالة المجلس العسكري واجبار الفريق عبود على التنحي، بعد الانتخابات المبكرة في عام 1965 وقيام الجمعية التأسيسية ضاقت الأحزاب التقليدية بالديمقراطية (الأمة، الوطني الاتحادي، الإخوان المسلمون) بالديمقراطية، وتمت مؤامرة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، مما خلق أزمة سياسية ودستورية وأخلاقية بـ”الفبركة” ومحاكمة حزب بأقوال طالب لا علاقة له بالحزب الشيوعي، وانتهاك استقلال القضاء برفض حكم المحكمة العليا بعدم دستورية حل الحزب الشيوعي، كما استمرت الصراعات الحزبية غير المنتجة مثل: انقسام حزب الأمة لجناحي الصادق والهادي المهدي، والدعوة للجمهورية الرئاسية والدستور الإسلامي، مما أدى لاشتداد حرب الجنوب والتوتر السياسي في البلاد، والأزمة الدستورية الثانية التي نشأت بعد حل الجمعية التأسيسية في فبراير عام 1968، وقيام محكمة الردة للاستاذ محمود محمد طه عام 1968، والهجوم الإرهابي الذي قام به الإخوان المسلمون على معرض الفنون الشعبية الذي أقامته جمعية الثقافة الوطنية والفكر التقدمي بقاعة الامتحانات بجامعة الخرطوم والذي أدى لمقتل طالب وجرحى، والذي وجد استنكارا واسعا، كما تدهورت الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وتم الاضراب العام الذي قام به اتحاد العمال عام 1968 لتحسين الأجور والأوضاع المعيشية، وتم الفشل في التوافق على الدستور الدائم واشتد الانقسام في المجتمع والأحزاب وموجة الاضرابات والاحتجاجات. في هذه اللحظة وقع انقلاب 25 مايو 1969.
وأخيرا، يبقيى من المهم الاستفادة من تجربة انتكاسة أكتوبر ترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، حتى لا يتكرر الفشل كما حدث في تجارب الديمقراطية الأولى والثانية والثالثة، والفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر التي انتهت بالحرب حاليا، التي لم يتحقق فيها ترسيخ الديمقراطية، الدستور الدائم، السلام مما أدى لانفصال الجنوب، كما لم يتم تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وتحقيق السيادة الوطنية، والتنمية المتوازنة بين أقاليم السودان مما أدى لانفجار الأوضاع في المناطق المهمشة أو الأكثر تخلفا، الخ، مما أدى للدخول في الحلقة الجهنمية (ديمقراطية- انقلاب– ديمقراطية. الخ).
لقد طرحت ثورة أكتوبر آمال وتطلعات شعب السودان في الانعتاق من أسر التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي منذ نهوض الحركة الوطنية الحديثة الواسع بعد الحرب العالمية الثانية وحتى تحقيق الاستقلال في يناير 1956.