الأعمدة

الكابلي: حين يكون الفن مترعا بالثقافة الموسوعية :

بقلم السفير/ فخرالدين كرار
قدّم لنا الأستاذ الكابلي على امتداد رحلته الفنية نموذج الفنان المثقف بوعي ظاهر ناجم عن دراية واطلاع لا ينقطع (highly cultured artist). كان الأستاذ الكابلي طيب الله ثراه محبا لكردفان ولعاصمتها عروس الرمال الأبيض، وكان يؤم منتدياتها الثقافية ويحتفي برموزها الفنية والثقافية، وقد شاهد الناس كيف أن الكابلي قد احتفى بالشاعر الكردفاني الفذ محمد عوض الكريم القرشي، وقدم روائعه بأسلوب مميز، وأذكر أنني كنت حضورا في تلك الجلسة الفنية القيّمة بنادي البنوك في الأبيض، بدعوة من صديق العمر الراحل عادل النور صالح حميدة عليه الرحمة، ويومئذ أمتعنا الكابلي بحديث شفيف مشبع للعقل والروح، وكشف لنا أنه استوحى أغنية “يا مرايا” من مقطع اطلع عليه وتفكر فيه من أحد روائع شكسبير الخالدة “يوليوس قيصر Julius Caesar”، وهاهو المقطع الذي أعانني على استخراجه عمنا الصديق البروفيسور أحمد التجاني إدريس حاج بشير أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا وعدد من الجامعات والمعاهد السودانية، الأستاذ السابق بالكلية الفنية في سلطنة عُمان، والمترجم الماهر الذي زاملني فترة عملي بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية:
Julius Caesar: Act 1, Scene 2
BRUTUS
What dangers are you trying to lead me into, Cassius, that you want me to look inside myself for something that’s not there?

CASSIUS
I’ll tell you, good Brutus. And since you know you can see yourself best by reflection, I’ll be your mirror and show you, without exaggeration, things inside you that you can’t see.

وقال الكابلي إنه كتب الأغنية التي اشتهرت باسم ” يا مرايا” مستلهما عبارة
I’ll be your mirror
وفي جلسة نادي البنوك في الأبيض ذكر الكابلي أنه قال لنفسه مخاطبا محبوبته في الشعر الذي قد يكون محض خيال “Let me be your mirror”، فالمرايا تعكس لك صورتك المجردة ولكنها لا تنبئك عما بداخلك، وفي علم السياسة نسمع عن الديمقراطية الصُورية (phoney democracy) وهي كالصورة في المرايا تُظهر شكلاً ولا تُعبّر عن مكنونٍ حقيقي أو فعلي للديمقراطية الحقة، وقد أدار أستاذنا الكابلي حوارا فنيا رقيقا مع المرايا في أغنيته الخالدة، وتحدث عبرها عن محبوبة وعن لقاء في سمواتٍ مضمخة بعبير الحب والهيام
كلميني يا مراية
أنا شايفك طربانة
حكوا ليك حكاية ولاّ كنتِ معانا
و لاّ إنت بتقري ياساحرة ظنوني
و لاّ شفتي الصورة الشايلاها عيوني
و لاّ يبقى أكيد عاداكي غُنايا
حكى لي الأستاذ أحمد التجاني إدريس حاج بشير أن الأستاذ كابلي قد حلّ ضيفا عليه في أبوظبي صيف العام 2000 برفقة ابنه سعد الكابلي، وتربط الكابلي صلة صداقة وثيقة مع العم حسن أحمد بشير والد السيدة لبنى زوجة ابن عمي ابراهيم محمد ابراهيم فرح “ود أبوجزاير”، والعم حسن هو أيضا شقيق زوجة أحمد التجاني الذي تربطه صلة قرابة بالفنان الكبير محمد ميرغني ابن عوف وهو من أهلنا الدواليب في بارا وأم درمان، وللأستاذ التجاني مكتبة أكاديمية متنوعة في صالونه تضم كتبا أدبية تشمل المسرح والرواية وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم اللغة وغيرها، وقال لي إن الكابلي كان يتخير منها كتابا ويقرأه كل يوم، وعندما يؤوب أحمد إلى المنزل مساءً بعد يوم عمله، يجلس إلى الكابلي الذي يناقشه عن فهم ودراية في موضوع الكتاب الذي اختار قراءته ذلك النهار، ولأن الكابلي قد قضى فترة شهرين كاملين في تلك الإجازة فلكم أن تتخيلوا مقدار جرعة المعرفة التي هضمها الكابلي الفنان المثقف كما وصفته آنفا، وقد عايشنا شغف الكابلي بالأدب في انتمائه لقمة “أخوان الصفا” الحسين الحسن وصديق مدثر وعبد المجيد حاج الأمين، ويكفي أن هؤلاء الأقطاب قد أخرجوا لنا روائعا أذهلت المثّال كما قال الكابلي طيب الله ثراه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى