بعض الدروس في ذكرى نصر أكتوبر ـ 2: الجيوش تمشي على بطونها ..وشركاتنا الوطنية أيضا
إذا كانت الجيوش تمشي على بطونها كما قال نابليون بونابرت ، فإنها (الجيوش) لا يمكن أن تقاتل دون أن تؤمن احتياجاتها من الغذاء والدواء والكساء من بيئتها المحلية دون حاجة لإمداد أو تموين من الخارج .. دعونا نستعرض بعض الحسابات الرياضية أولا قبل عرض الاستنتاجات السياسية :
ـ فى أعقاب 67 واجهت مصر ظروفا سياسية واقتصادية بالغة القسوة والخطورة، حيث فقدت مصر آبار البترول فى سيناء، وخربت معامل تكرير البترول فى السويس، وأغلقت قناة السويس التى كانت تدر لمصر فى المتوسط سنويا 164 مليون دولار فى السنوات الـ7 قبل الحرب، كما حدث إنخفاض كبير فى إيرادات السياحة التى كانت تدر نحو 100 مليون دولار، فضلا عن الإنفاق الضخم الذي فرضه تهجير نحو مليون شخص من قناة السويس، إلى المحاقظات والأقاليم البعيدة عن القناة .
ـ عدد أفراد القوات المسلحة في حرب 73 حوالي مليون ونصف المليون (مذكرات الفريق الشاذلي)
ـ حاجة الفرد الواحد من تعيين القتال يوميا نحو ثلاث معلبات محفوظة من البولبيف، فول، خضار، وعلبتين بسكويت ، وعدد واحد جراية (الأسم العسكري لرغيف العيش) إلى جانب عبوات محفوظة على هيئة أنابيب معجون الأسنان ، بداخلها جبنة أو زيتون أسود وغيره ..نصيب الفرد الواحد نحو ثلاث أنابيب أيضا ، وكان تعيين الطوارئ عبارة عن لوح من الشيكولاته أو «الفولية» سمكها كبيرة ، باعتبار أن كل منهما يمد الجندي بطاقة كبيرة أثناء القتال.
ـ أيضا هناك تعيين الطازج ، وكان بمثابة المكافأة التى يحظى بها المقاتل فى أوقات الهدوء داخل الحرب، وصحيا لا يفضل للجندى الاعتماد على تعيين القتال لأكثر من ثلاثة أيام متتالية، ويعتمد الطازج على مقطورات طهى، تقدم وجبات ساخنة من خضروات أو لحوم أو فراخ، ولم يكن متاحا بشكل كبير فى ظروف الحرب، ولكنه كان سلاحا من أسلحة رفع الروح المعنوية للجنود
ـ نضيف إلى ذلك عدد أرغفة الجرايا المخبوزة ، وكميات العدس الأصفر (لزوم الشوربة) أو ألأرز والمكرونة التي يستهلكها الأفراد يوميا (الخطوط الخلفية) ثم نضرب ( من جدول الضرب) عدد أفراد القوات المسلحة × نصيب الفرد الواحد من عدد المعلبات والأنابيب ، ونجمع حاصل الضرب مع كميات الحبوب والبقول التي تستهلكها القوات المسلحة في اليوم الواحد قتال..سيكون المجموع مئات الأطنان من المنتجات الغذائية المحفوظة ..من أين جاءت ؟
ـ بالسلاح قاتل الجيش المصري العدو الإسرائيلي وانتصر عليه .. وبالمعلبات ، قاتلت شركات القطاع العام (قها وإدفينا) الظروف الاقتصادية بالغة القسوة التي تحرم مصر وجيشها من استيراد الأغذية المحفوظة ، وأعفتنا الشركتين من سؤال “اللئيم”، سواء كان من الغرب أو الشرق ، ونجحت بجدارة واستحقاق في توفير إنتاج نحو 90% من احتياجات الحرب ، من تعيين وإطعام المقاتلين من الجنود والضباط .. وفي الوقت نفسه كانت الشركتان توفران العصائر والمعلبات للمواطنين بأسعار 7 قروش للعبوة، نظراً لضعف الرواتب وقتها.
ولذلك كان بيع شركة قها (1998) المملوكة للجيش والشعب سببا في إنتفاضة شرفاء الأمة الذين نجحوا في استعادتها لنا (2008) بعد معركة مجيدة طاحنة في المحاكم المصرية الوطنية.. ونظرا للأهمية الاستراتيجية لتلك الشركة ، وجهت القيادة السياسية العليا، في العام 2020 بالتحديث الشامل لشركتي “قها” و”ادفينا” لاستعادة إنتاجهما المتميز كأصول وطنية في الإنتاج الغذائي، وتعزيز قيمة المنتج الوطني في السوق المحلي وزيادة قدراتها التنافسية وتعظيم الفرص التصديرية .. والأهم لتأمين احتياجات الجيش والشعب إذا ما اندلعت حرب أخرى..هو اعتراف صريح من رأس الدولة بالأهمية الاستراتيجية للقطاع العام في الصناعات الغذائية ، وإيانا أن نفكر مرة ثانية في بيع شركتي قها وإدفينا الممولكتين للشعب المصري وقواته المسلحة.
ـ القطاع المدني في الدولة أعفانا أيضا من استيراد شدة الميدان أو جاكيتة العبور التي كانت بديلا للجربندية (الأسم الموروث من الجيش العثماني) والتى كانت تشبه «الشنطة» ويرتديها الجندى على ظهره حاملا بطانية وتعيينات طعام ومياه، ولم تكن كافية لغرض استراتيجية القتال التي تستلزم حمل أكبر ذخيرة ممكنة وأقل احتياجات إدارية لتمكن جندي المشاة الذي يعبر القناة من مواجهة دبابات ومدرعات العدو.. وقد نفذ هذا القطاع ما طلبته القيادة العامة للقوات المسلحة في توفير 50 ألف قطعة من شدة الميدان الجديدة التي كانت عبارة عن جاكت به حوالى 20 جيبا يكفى لحمل أكثر من 20 كيلو من المؤن ، مثل الذخيرة، قنابل يدوية، تعيينات، مياه، معدات وقاية، حقن اتروفين للحماية من الغازات السامة، رباط ميدانى، كوريك، وغيرها .
ـ حتى في حرب الاستنزاف ، اكتشف الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية (وقتها) أن الزي العسكري (الأفرول) لا يناسب عمليات القتال ، حيث اشتكى كثير من المقاتلين الذين كانوا يعبرون القناة في االخفاء للقيام بعمليات فدائية شرق القناة ، أن أزرار “جاكت الأفرول والبنطلون” تتمزق خلال العبور وتسلق الساتر الترابي لخط بارليف ، ما يسبب إرباك لهم خلال القتال ، فأصدر توجيهاته لهيئة الإمداد والتموين بتكليف شركة وطنية لتعديل “عراوي الجاكت” بما يسمح بزيادة الأزرار ليبقى جاكت الأفرول مغلقا على جسد المقاتلين ولا يسبب لهم مثل هذا الإرباك .. وقد كان ، بفضل واحدة من شركات القطاع العام المتخصصة في الملابس.
ـ وعلى الجبهة الداخلية ، وأمام حالة الأزمة الاقتصادية، قاتلت شركات القطاع العام في ساحة الكساء لتوفير احتياجات المواطنين، وكانت بدلة المحلة تباع بـ12 جنيها ، والقميص بـ3 جنيهات، وجميع المصريين (تقريبا) يرتدون “بيجامات” المحلة المقلمة أزرق وبنى ، وأيضا زي المدارس ، عبر منافذ صيدناوى وبنزايون وعمر أفندى وهانو وشركة بيع المصنوعات .
ـ الدواء أيضا ، يمكن القياس عليه ، لنعرف ونتأكد كيف قاتلت الشركات الوطنية بالعلم ، الشركات العملاقة التي تحتكر صناعة الدواء في العالم ، خلال حربي الاسستنزاف واكتوبر ، عندما توقفت الشركات الأمريكية والإنجليزية و”رجالهما” عن إمداد مصر بالدواء ..والمؤكد أن التاريخ العسكري سيحفظ لشركات الدواء التابعة للقطاع العام في تلك الفترة المكانة الاستراتيجية لها إذا ما أرادت الدول أن تؤمن نفسها من سؤال اللئيم ، في حال اضطرارها لخوض حرب وطنية للاستقلال والتحرير.
ـ الحديد والصلب قاتل هو الآخر في المعركة ، وقام القطاع الإنتاجي للشركة بتوريد منتجات (الصاج) تستخدم فى صناعة المدرعات لمصنعى 100 و200 الحربىين، بخلاف تلبية احتياجات السوق المدني من صاج وحديد وخلافه.
التقديرات السابقة ليست من أجل الدفاع عن القطاع العام أو وضع وردة على قميص عبد الناصر خلال موجة الهجاء السنوي التي يشنها الإخوان عليه كل عام ، فهو في غنى عن أمثالي للدفاع أو الهجوم عليه ، إنما من أجل تأمين الوطن من خيانة الأصدقاء وسؤال اللئيم وقت الأزمات .
الجيوش تمشي على بطونها كما قال لنا نابليون بونابرت ، وأكد عليه كلاوز فيتز أستاذ الأساتيذ في الاستراتيجية العسكرية .. والجيوش أيضا لن تلجأ لسؤال اللئيم إذا ما كان لديها شركات وطنية تؤمن لها الغذاء والدواء خلال حروبها .. عاشت مصر بشعبها وجيشها وقطاعها العام.
أحمد عادل هاشم