الأعمدة

بدون زعل : قلتو لى ما لاجئين؟ البروفيسور عصام بوب استاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم

اتصل بى البروفسير المعتصم أحمد الحاج، مدير جامعة أمدرمان الأهلية. صوته حزين، مجروح. يخبرنى أن الجامعة الأهلية – وعلى مدى الثلاثة أيام الماضية – تعرضت لنهب شرس لئيم. لم يبق فيها شيئ، تقريبا..المكاتب، المخازن، القاعات، ولا حتى كرسى..تنقل عربات الكارو، طوال أيام، ممتلكات الجامعة، وتغوص غرب مقابر حمد النيل..”اتصلنا بالشرطة، فكان ردهم أن المنطقة خارج سيطرتهم”..
لا شيئ يمكن أن تقوله ليواسى بروف معتصم فى فقده. يقول لى “أنت تعرف رمزية الجامعة، وما تعنيه..شيئ لا يتصوره العقل”..قلت له “قبل دقيقتين كان صديقى جمال خلف الله، العائد لتوه من الجزيرة، أبوعشر، يحكى لى عن مشاهداته طوال الطريق..نهب مدينة جياد، نهب المصانع والمستودعات فى بحرى..وكيف أن البنزين والجازولين المسروق من الطلمبات، تتم تعبئته فى أى شيئ، ويباع بأى سعر..نحتاج، يا بروف، لإعادة قراءة المجتمع السودانى وتعريفه، إنطلاقا من أحداث أفرزتها هذه الحرب”.
شايف كيف؟
ندفن رأسنا فى الرمال..
نتعامى عن أجلى صفاتنا و أكثرها التصاقا بنا، ونعمد إلى تزيين صورة متخيلة، لا تمت إلى الواقع بصلة..كأنما هو فعل تعويضى ندارى به نقصنا المشين.
الحرب كشفت جوهرنا ومعدننا..
ذلك أن الأخلاق الفاضلة تتبين فى أوقات الشدة والضيق، لا الرخاء..فى الملمات، المصائب، لا فى غيرها..وحين يعمد صاحب البقالة إلى زيادة الأسعار على السلع، ثانى أيام الحرب، فإنه يسرقك..صحيح أنه لم يكسر بيتك، لم يقتحم مصرفا، مستودعا…الخ، لكنه يسرق، علنا، فيما نحن نتستر عليه.
يسرقك الذى يحول الرصيد، الكهرباء، بتاع الفرن، بتاع الخضار، الجزار، وكل أحد…يفعل الموظفون ذلك فى الحياة اليومية، العمال، الشرطيون، جهاز الدولة أجمع..ولذلك فإنه حين تأتى ظروف استثنائية، فإنها تبين أخلاق الجميع، ومعادنهم..
الذين نهبوا جامعة أمدرمان الأهلية، يعرفون أنها صرح تعليمى تم بناؤه بشق الأنفس..لكن ذلك لن يوقفهم..هى غنائم، فحسب…مثلها مثل ممتلكات أسامة داوود وغيره..أفرع البنوك التى نهبت..المحال التجارية..جياد..
لكن منذ متى نفرق بين الممتلكات العامة والخاصة؟ منذ متى كان السودان – عموما – أولوية لأى شخص سودانى؟ متى تمت تربيتنا لنصونه، نحافظ عليه، نحترم ممتلكاته، ثرواته، اسمه ورسمه؟
شايف كيف؟
جرت تربيتنا على أن “دار أبوك كان خربت، شيل ليك منها عود”..وهى تربية تدفعك لأن تسعى خرابها – عمدا – لتأخذ عودك..نسرق، ننهب، ننشر الشائعات، نختلق الزيادات فى الحادثة البسيطة، نكيد لبعضنا، نحفر لجارنا ليقع.
أليست الحرب الدائرة الإن، هى التجلى الأكبر لذواتنا الحقيقية؟ لصفاتنا الأصلية؟ لأنظمة تفكيرنا جميعا، نخبا عسكرية ومدنية، ومواطنين رعاعا؟
الأساس الذى نتأسس عليه هو ” النفخة الكاذبة” :
نحنا الساس ونحنا الرأس…
نحنا الضربنا السما بوهية..
نحنا الحفرنا البحر…
نحنا بوخ البايتة..
وهكذا..
يصدف أن ننتفخ حتى لكأننا “خلقنا روحنا برانا”..لكننا فى الأساس مجرد كذابين، لصوص، جهلة، كسالى، مشوهين نفسيا، مرضى، ممتلئين بكل النقائص..
نكشح مياهنا القذرة أمام البيت، لأن الشارع لا يخصنا..نقطع الأشجار والغابات لأنها ليست ملكا لأحد…نسرق محتويات المتحف القومى والمتاحف الأخرى ونبيعها..لأى أحد وبأى ثمن..نهرب كل شيئ : السكر، الدقيق، البصل، الذهب، الصمغ العربى، السمسم، الوثائق، الأدوية، أناث الحيوانات، السلاح، البشر، كل شيئ، حرفيا..
شايف كيف؟
لا يفعل سكان أمبدة كرور، العزبة، الحاج يوسف، دار السلامات، كنابى الجزيرة، وحسب..يفعل ذلك الجميع: العلماء، المثقفون، التجار، أصحاب الشركات الكبرى، العسكريون، السياسيون، الصحافيون، الدبلوماسيون، الجميع..
فتأمل!!!
تسرق لتسد الرمق، لتعلم أولادك، لتنبى منزلك، لتشترى ذهبا لأمرأتك، لتتبنى مسجدا..ولتذهب إلى الحج..
ثم نكيل المديح لذواتنا المعتلة، المريضة…نفخر بما ليس فينا…نتعامى عن الحقائق..
ربما كانت هذه الحرب ضربة لنستفيق..
فنحن ما نزال سائرين نياما..
إلى أقرب مكب للنفايات..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى