الموسيقار عبدالله عربي: تاريخ حافل في أداء صولات الكمان، وإنجاز الألحان
صلاح شعيب
خرطوم الخمسينات، والستينات، كانت تعج بالحركة الدائبة للفنون الموسيقية المتنوعة في أشكالها بينما كانت المدرسة الوترية الأمدرمانية بقيادة عبد الرحمن الريح تنافسها بالأصوات الجديدة. وهكذا صار التنافس بين مدرستي الخرطوم وأمدرمان في أوجه حين برزت أصوات شعرية ولحنية واعدة تحمل آفاقاً جديدة للحن متأثرةً بمرحلة ما بعد الاستقلال، والواقعية الاشتراكية. ساعتئذ انبثقت شحنات حداثية للكلمة واللحن لتتفتح زنابق لحنية على يد العازفين عبد الله عربي، وحسن بابكر، اللذين كانا في قلب هذا التنافس ليعززان دور أصحاب الكمان في نشر ألحانهما المؤسرة في مقابل الفنانين الملحنين المبدعين في العود من لدن مدرسة أمدرمان. وهكذا استطاع عربي البارع في الكمان والصولات المبهرة أن يتصدر مشهد المجيدين لآلة الكمان، وما كانت من صولة إلا وخلق منها جولة للإحساس الراقي، وهو يمنح موسيقى الكاشف، وأحمد المصطفى، وعثمان حسين، ووردي، وكابلي، قبساً من نفحات كمنجته غير الضائعة.
في وسط أجواء النشاط الفني الدائب في الخمسينات تلك، حيث يمثل مركز الخرطوم جنوب محطه نشأ عبدالله عربي معاصراً لتحولات سياسية، واجتماعية، وثقافية، وضعت الخرطوم في صدارة الإبداع الغنائي. فكان وجوده ضمن جوقة عثمان حسين كفيل بمنحه البراعة في لفت النظر إليه كعازف يملك حساً عالياً في ترجمة ألحان صاحب “الفراش الحائر”. وحينما يشارك عربي في إذاعة أمدرمان يضيف عبر الورشة الموسيقية حتى يتشذب اللحن، ويخرج بديعاً. ولعله ساهم بقدر وافر في إبداء وجهات نظر قيمة في المقدمات الموسيقية واللزمات، بل كامل الميلودية قبل اعتماد تسجيلها.
الظروف التي نشأ فيها عربي، وجيله، لم تكن محفوف بأسئلة الحياة المعقدة التي واجهت الأجيال اللاحقة. فقد كانت البلاد آنذاك تعيش وضعاً معيشياً، واستقراراً نسبياً، أفضل. ولذلك ازدهر الإبداع في كل مجالاته، وكان الغناء يتطور باضطراد في ظل وجود مواهب صوتية متنوعة كانت تتنافس بمحبة لخلق أغنية تعبر عن طبيعة الوجدان السوداني. كل هذا العطاء كان يتغذى بحلم الدولة الديمقراطية التي تخلف الاستعمار لتضع السودان في مصاف الدول المتقدمة في محيطه العربي، والأفريقي. ومن هنا كان عربي يوقن تماماً أن مساهماته لم تقتصر على مرافقة الفنانين بعزف ألحانهم. بل اهتم هو نفسه بتقديم ألحان جديدة تأخذ في الحسبان هذه التحولات المجتمعية المرتبطة بأفكار، وأحلام، شعراء تلك المرحلة. ومن ضمن هذه الأعمال قدم عربي “هبت الخرطوم في جنح الدجي” للشاعر عبد المجيد حاج الأمين، والتي غناها الكابلي. وقد عبرت كلمات الأغنية الموشاة بلحن عربي الثوري عن مرحلة ما بعد ثورة أكتوبر التي أرخ لها الشعراء، والملحنون، بجياد الكلم.
-٢-
الأستاذ محمد سيف الدين علي أصدر سفراً عن الموسيقار جاء بعنون “القوس الذهبي”، حيث أورد أن “الموسيقار، والفنان الرائع عبدالله حامد عربي ولد عام ١٩٣٠ في مدينة القطينة في النيل الأبيض في وسط السودان. والده هو حامد محمد تحاميد، وكان من أوائل المنشدين الذين قدموا للإذاعة، وذلك في فترة الخمسينات من القرن الماضي. فكان ينشد الشعر على طريقة الشاعر الكبير محمد سعيد العباسي. والدته هي نور الشام فضل المولى. أما زوجته فهي سميرة محمد عبد الرسول، وله ست بنات هن حنان، وخالدة، وأمينة، وعديلة، إيمان، ورحاب.
كان والد عبدالله ينشد باللغة العربية الفصيحة، وله طريقة متفردة في الإنشاد الذي يؤديه منفرداً دون أي مصاحبة صوتية من مجموعة، أو منشدين، أو مصاحبة آلية، أو إيقاعية. فهو يعتمد على قوة حنجرته، ودقة حرصه، وسعة خياله، وقدرته العالية على ابتكار أساليب تعبيرية رائعة تلبي أغراض، ومعاني القصائد والمديح. لقد كان الجو الفني المشحون بالترانيم، والألحان، والتآلف الوجداني، داخل الأسرة أحد أهم العوامل الأساسية التي دفعت عربي للالتفات، والانتباه للفن. فاختزن تلك الحصيلة، والخبرة الفنية في دواخله، ووجدانه، وبالتالي كانت شرارة فنية بدأ اشتعالها وتوهجها تدريجياً في نفسه”، وفقا لما جاء في كتاب القوس الذهبي.
بجانب “هبت الخرطوم” قدم الموسيقار عبدالله عربي العديد من الألحان للفنانين. فالمطرب التيجاني مختار قدم له من كلمات الشاعر إسماعيل حسن”أمشي واتمخطر في أرض أجدادك”، وشرحبيل أحمد غنى له «كدوال» للشاعر الجيلي محمد صالح، ونال منه سيد خليفة من كلمات إسماعيل حسن “يا كنقو يا جبار”. أما عثمان مصطفى فقد نال نصيب الأسد. وغنى له من كلمات الجيلي محمد صالح “فيها إيه” و”فلسطين”. و”بساط الريح” و”صوت الأحرار” من كلمات عبد العزيز سيد أحمد، كذلك غنى له عثمان مصطفى يا “شاطئ النيل” و”أنا ملاح” من كلمات إسماعيل حسن، واخوان زينب ورقية للشاعر محمد علي أبو قطاطي. ومن كلمات وألحان عربي قدم أغنية “عيونو السود الجميلة” للفنان حسن درار. ولحن عربي للفنان محمد ميرغني سبا من كلمات صديق مدثر، و”أفراح البلد” للشاعر إسماعيل حسن، و”ست البنات” للشاعر والملحن علي ميرغني.
-٣-
عبدالله عربي لكونه يعد من الجيل الرائد في العزف على الكمان. وهو إضافة لجيل الكمنجاتية السر محمد علي، وبدر التهامي، وفضل جاد السيد، وحسن خواص، وعبد الفتاح الفتاح الله جابو، ولذلك كانت بدايته مع أحمد المصطفى شهادة براعته. ومنذ ذلك الوقت عُرف في دوائر الفنانين والموسيقيين بأنه من أكثر عازفي الآلة الذين استخرجوا جماليتها لدرجة يكاد أنه باسلوبه الماهر قد سودن نغمها. ولما كان لا بد من الاعتراف بأهميته ضمن الجوقة الموسيقية استحق أن يمنح الفرصة للسفر للخارج لمزيد من التعمق في أساليب العزف.
ولهذا كان الأستاذ عربي واحداً من ضمن المحظوظين الذين درسوا الموسيقى في أوروبا الستينات. فقد رأت الدولة آنذاك أهمية تأهيل كوادر موسيقية تساعد في تطوير الغناء.
وبعون اتصالات من أحمد محمد يس وكيل وزارة الخارجية وقتها تمكنت الإذاعة من بعث برعي محمد دفع الله إلى لندن، وجمعة جابر إلى موسكو، والتاج مصطفى إلى ايطاليا، وعبدالله عربي إلى النمسا.
في بادئ الأمر وجد عربي معارضة حالت دون الحصول على تصديق من وزارة المالية لتمويل سفره. وفي حفل لوردي حضره عازف الكمان الماحي إسماعيل – أول مدير لمعهد الموسيقى والمسرح – أُعجب بأسلوب عربي، وصفق له طويلاً حين أجاد الصولو. وطالبه بإعادة المقطع مرة ثانية. وصادف وجود طلعت فريد في الخفل فشكى له عربي أمر تعطيل سفره. وبعدها تمكن من أخذ تصديق المالية فسافر إلى النمسا في عام ١٩٦٠. وقضى هناك خمسة أشهر، تمكن من خلالها من معرفة أساليب عزف الكمان، وعلوم أخرى. وعاد عربي بتحصيله الموسيقي الجديد ليواصل في تقديم صولاته المبهرة بجانب الخواض، والله جابو، ومحمدية، وآخرين.
الأستاذ السابق في معهد الموسيقى والمسرح ميرغني الزين يرى أن جيل عربي يمثل الريادة، وله الفضل في تقديم أجمل الأغنيات عبر الإذاعة لأجيال من الفنانين الذين تعاون معهم. ويضيف بأن عربي بجانب مهارته في العزف برز في مجال التلحين، وقدم أعمالاً مميزة لكبار الفنان. وأشار ميرغني الزين إلى أنه “زامل عربي في فترة الثمانينات من خلال العزف لفنانين أمثال عثمان حسين، ومحمد ميرغني، ووجد عنده تقديراً كبيراً للعملية الفنية ما ساعد ذلك في نهل كل الأجيال التي زاملته عبر الفرق من تجربته المديدة في المجال، وبذلك التقدير الذي بذله عربي للفن مهد الطريق لتلاميذه في احترام فنهم المقدم باعتباره أرقى أشكال المساهمة الإنسانية”.
الموسيقار عربي البالغ من العمر أربعة وتسعين عاماً ما يزال يعيش بيننا، ويحفه الرضا بأنه تربع على عرش أمهر عازفي الكمان السودانيين لأكثر من سبعة عقود بأنامله الماسية. وهذا انجاز استثنائي وسط كل مبدعي الفنون.
نقلاً عن SBC