
حسن عبد الرضي الشيخ
بينما يعاني المعلم السوداني من الفقر والإهمال المتعمد، نجد جوقة من المطبلين والمصفقين يرفعون أصواتهم بالتهليل والتبرير بحديثهم عن نجاح امتحانات الشهادة السودانية وقرارات فتح المدارس، وكأن التعليم مجرد ورقة في معركة السياسة، وليس حقًا أصيلًا وواجبًا وطنيًا لا يُقبل المساومة عليه. وفي ظل هذه الأوضاع المأساوية، ترتفع صرخات المعلمين، لكن دون أن تجد لها صدى في آذان المسؤولين، الذين يتقنون فن التجاهل والتسويف والوعود الزائفة.
لقد بات المعلم السوداني يستغيث من الجوع بسبب هذا التهميش والإذلال. فلا يكاد المعلم السوداني يخرج من مأساة حتى يسقط في أخرى؛ فمن تأخير الرواتب إلى فرض الرسوم على أبنائه، ومن ضياع البدلات والترقيات إلى إهمال حقوقه في الحوافز المستحقة. في دولة تحترم مواطنيها، يكون المعلم على رأس الأولويات، فهو حجر الزاوية في بناء الأمة، لكنه في السودان اليوم يعاني من تهميش غير مسبوق، حتى صار يُنظر إليه كمتسول يطالب بحقه في راتب زهيد بالكاد يسد رمقه.
مرتبات هزيلة تتأخر عمدًا، وحقوق تُنهب بدمٍ بارد، وكأن المطلوب من المعلم أن يعمل بلا مقابل، أن يكدّ ويشقى بينما أطفاله بلا طعام، أن يواصل العطاء رغم أن جيوبه خاوية. والأدهى من ذلك، أن الحكومات المتعاقبة لم تكتفِ بهذا الظلم، بل تمادت بفرض رسوم خيالية على أبنائه ليتمكنوا من الجلوس للامتحانات، وكأن أبناء المعلمين يعيشون في رفاهية، أو كأن المعلم يعمل في سوق الأوراق المالية لا في مدرسة بلا كهرباء أو ماء.
هل أصبحت امتحانات الشهادة السودانية تجارة؟ ففي قرار كارثي يعكس مدى انفصال السلطات التعليمية عن الواقع، تم فرض ١٠٠ ألف جنيه رسومًا على طلاب الشهادة السودانية، مبلغ لا يمكن لعامة السودانيين، فضلًا عن المعلمين، تحمله في ظل أزمة اقتصادية طاحنة. كيف يعقل أن تطالب الحكومة معلمًا لم يتلقَّ راتبه منذ شهور بتوفير هذا المبلغ؟ من أين يأتي به؟ هل يسرقه؟ أم يترك أبناءه بلا مستقبل؟ أم ينحني للذل ويقف طوابير أمام جمعيات الإغاثة طلبًا للمساعدة؟ .
من حق كل معلم أن يسأل : أين تذهب هذه الأموال؟ كم منها يصل إلى المدارس؟ وكم منها يضيع في جيوب الفاسدين؟ إذا كانت رسوم الامتحان سابقًا عشرة آلاف وامتلأت مكاتب الوزارة بطلبات الإعفاء، فكيف سيكون الحال اليوم مع فرض مائة ألف؟ لا شك أن الحكومة تدرك أن أغلب الطلاب لن يتمكنوا من السداد، فإما أن تُلغى الامتحانات بحجة ضعف التسجيل، أو يتم الاعتماد على المنظمات الدولية، مما يفتح الباب واسعًا أمام الفساد والمتاجرة بمستقبل الأبرياء.
باتت المدارس عالقة بين نيران الحرب وقرارات تفتقر إلى الحكمة. فالحكومة، التي لم تستطع حتى اليوم حل مشكلة النازحين، ولا توفير رواتب المعلمين، ولا تأمين أبسط مقومات الحياة، تصرّ على استئناف الدراسة وكأن شيئًا لم يكن. كيف يذهب المعلم إلى المدرسة وهو لا يملك ثمن المواصلات؟ كيف يشرح درسه وهو جائع؟ كيف يطالبونه بالعطاء وهم لم يعطوه حقه؟ .
والأغرب أن المدارس نفسها ليست جاهزة؛ فبعضها لا يزال يستخدم كمعسكرات، وأخرى أصبحت مأوى للنازحين، والبقية تعاني من نقص المعلمين والكتب والوسائل التعليمية. ومع ذلك، تصدر القرارات العشوائية بلا دراسة، ولا اكتراث لمصير الطلاب والمعلمين على حد سواء.
في هذا الظرف العصيب، هل لنا أن نصرخ: المعلم ليس عدوًا.. أَعطُوه حقوقه أولًا! لن نُلدغ من الجحر مرتين. كفى تسويفًا، كفى تلاعبًا، كفى خداعًا. المعلم ليس العدو، ولا هو الطرف الأضعف الذي يمكن سحقه بقرارات ظالمة لا تراعي الواقع. قبل أن تطالبوه بالنزول إلى المدارس، أعطوه حقوقه المسلوبة. وإن كنتم مصرّين على فرض الرسوم، فابدأوا بإعفاء أبناء المعلمين على الأقل. وقبل أن تتحدثوا عن انتصارات وهمية في نجاح امتحانات الشهادة السودانية، انتصِروا للمعلم وللمواطن الذي طحنته الحرب والجوع والذل.
إن كان فيكم من يخاف الله، فليوقف هذا العبث فورًا. لأن الضغط بلغ مداه، والصبر نفد، والمعلم الذي طالما تحمّل الظلم، لن يسكت إلى الأبد.