
بقلم الاستاذ عمر قنديل
لا أدري ما قصتي مع رحيل المبدعين؛ فمجرد قراءتي لقوة التفيكر رحل إبراهيم الفقي وما أن انتبهت لعبقرية الطيب صالح حتى غادر الدنيا مودعا بعد أن أبقى روحه المبدعة محلقة في فضاءات المدن وأدبه يدرس في عديد الجامعات حول العالم.
من خلال كتاباته تعرفت على لندن التي كانت خارجة لتوها من وطأة العهد الفكتوري.. ولجت معه حانات تشلسي ومسارح الهيماركت والرويال كورت وقتما كانت تضج بمسرحيات بيرناردشو وتغريدات شعر إيدث ستون. والمطابع كانت تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر.
أدركت من أسطره سياسات الإستعمار الخفية وأن السفن أول ما مخرت عرض المحيط جاءت تحمل إلينا المدافع لا الخبز وأن الإنجليز أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول “نعم” بلغتهم !
” نعم يا سادتي، لقد جئتكم غازيا في عقر داركم، قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ، أنا لست عطيل، عطيل كان اكذوبة!” أسطر كتلك تثبت نفسها برسوخ في ذهن أي قاريء حاذق متوثب لسبر أغوار المعاني.
الطيب صالح لديه مقدرة تصويرية عالية تجعل من شخصياته كائنات محسوسة تكاد تلمس وجودهم في الواقع، حيث استقبلتنا رائحة جسد مسز روبنسون في محطة القطار بالقاهرة وألفينا إيزابيلا سيمور عطوفة كما وصفها وأبصرنا عيون آند همند المتقدة بالحياة والشغف ورأينا انعكاس صورة شيلا غرينود على المرآة وهي تتلاعب بالعقد.
كان عطر حسنة بت محمود خفيفا لكنه اشعل في الراوي اشتهاء لعوالمها المخضرة وأكوانها الغنية. المرأة تبدو في كتابات الطيب قوية ومؤثرة وساحرة وفاتنة وأحيانا عطوفة وطيبة ومتبدلة ومتغيرة كسطح البحر وكوجه أم الراوي. أما بت مجذوب فتلك رواية بحالها !
ولا ننسى ودالريس وبكري وحاج أحمد والزين ومريود وبندرشاه وسعيد عشا البايتات وودالرواسي وسيف الدين وغيرها.. كلها شخصيات مميزة وسمها الطيب صالح بخصال تتراوح بين نوازع الخير والشر.
كتب الطيب صالح ليقيم جسرا بينه وبين بيئة لطالما أفتقدها. كتب عن القرية بشجرها وناسها ونيلها وحركة مجتمعاتها. كتب عن المدينة بنظامها وحضارتها ورقيها وإنسانها المأزوم. أوضح كيف أن الحضارات يمكن أن تتفاعل مع بعضها تفاعلا يتحرك بها بين التآلف والصراع. كتب عن الآخر وكيف ينظر إلينا من علوه الزائف.
كان الطيب صالح يؤمن بمقولة جراهام غرين أن الكاتب عليه أن يقطع الحبل السري الذي يربطه بالتجربة وأن تواجده في أعماله يكون كما الظل وليست أساسيا.
كتب الرواية والقصة القصيرة والمقال وكان يستمتع بإلقاء الشعر.
ما يجعل كتابات الطيب صالح بهذا التفرد أن الرجل صبغها بصبغة تخصه؛ هي نتاج قراءاته وتجاربه وتجواله بين الدول واستيعابه للثقافات على اختلافها وتباينها.
ألا رحم الله الطيب صالح وأسكنه فسيح جناته.