مالك عقار فجة موت أم قبس وعي – خالد فضل
(1)
(فجّة الموت) حيث يفيق الشخص المريض الممدد على فراش الموت فجأة ويبدو في حالة جيدة، تعقبها مباشرة وفاته، في تلك الفجّة القصيرة يقوم الشخص بسرد اعترافات خطيرة حول مسيرة حياته السابقة، يفصح عن كل الأسرار ومكنونات الفؤاد، ثم يمضي غير آبه بما تخلّفه من آثار. لكن في حالة بطل رواية أمير تاج السر بعنوان إيبولا76، وبعد اعترافاته الخطيرة بالخيانة الزوجية المتبادلة في فجة الموت تلك، عاد الرجل للحياة وشفي من الوباء كحالة نادرة، وحدث ما حدث. كما في ختام رواية عبقري الدغمسة السوداني شمس الدين الكباشي حول تراجيديا مجزرة الإعتصام (3يونيو2019م) أمام بوابات مقرات قيادة أركان القوات المسلحة السودانية.
(2)
نعود للسيد مالك عقار، وهو يحمل رتبة فريق في الجيش الشعبي لتحرير السودان؛ انتقل بها فيما يبدو إلى الجيش الحكومي، ومنه إلى التمرد ثانية حيث حكم عليه بالإعدام غيابيا في محكمة سنجة ثم إلى مجلس السيادة الإنتقالي ضمن ملحق الوثيقة الدستورية (2019م) بموجب تعديل (2020م) فيما عرف سياسيا بكتلة السلام. هذه هي صفة الفريق التي تسبق اسمه، وهو في هذا المضمار ليس وحده بالطبع، هناك الفريق حميدتي، تدرج إليها من عميد تتبع قواته لجهاز الأمن ثم رئاسة الجمهورية، قبلها كان يعمل في تجارة الإبل بين السودان ومصر وليبيا ضمن مهنة عائلته، هذا ما ذكره بنفسه في حوار مع تلفزيون محلي (أيام صفانا). هناك أيضا مني أركو مناوي (جنرال)، وأعرف طرفا من سيرته من خلال زمالة وصداقة بشقيقيه العزيزين حسين وخميس، فهو على كل حال لم يلتحق بكلية عسكرية. أثبت هذه المعلومات لأنها ضرورية فيما أنا بصدده من تحليل لحديثين للسيد مالك عقار في مناسبتين عقدتا مؤخرا ببورتسودان. لأنّ من أهم مظاهر فشل الدولة السودانية وانهيارها في تقديري يتجلى أكثر ما يتجلى في (الرتب) العسكرية التي يتحلى بها عقار وأضرابه. وما أكثر من لا تسبق أسماؤهم رتبا لكنهم يرأسون ويأمرون ويحققون مع ذوي الرتب. ففي محاضرة بقاعة الشمندورة ببورتسودان بدا لي الفريق عقار وكأنه قد أفاق فجأة من وباء إيبولا23 ولست متأكدا إن كانت تلك فجة الموت أم قبس من وعي .
(3)
يقول وهو يسرد المعلومات الموثقة والمعلومة سلفا، إنّ تكوين ورعاية الدعم السريع تم بوساطة الدولة السودانية، وأنّ إلغاء المادة (5) من قانون القوات المسلحة بمنح تلك القوات الاستقلالية (تسبب في الحرب). بالطبع يعلم جميع مناصري الحرب والداعمين لاستمرارها أن تأسيس ورعاية الدعم السريع، ثم تعديل المادة المشار إليها، تمت على يدي المشير عمر البشير، والفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان على التوالي. ولم يك لعبدالله حمدوك أو جماعة الحرية والتغيير أو تقدّم أو أي قوى سياسية مدنية دور في التأسيس والرعاية ومنحها الاستقلالية، فكيف تصبح هذه القوى بين عشية وضحاها هي الحاضنة الداعمة والجناح السياسي لمليشيا أسسها ورعاها خصومهم المفترضين في تنظيم الإسلاميين المؤتمر الوطني! إنّ حبل الكضب قصيّر كما يقول أهلنا، ولكن أكثر الناس لا يعقلون ولا يتثبتون، يكفي إطلاق الشائعة فيتم اعتمادها وتبنيها كحقيقة لا تقبل النقاش. هذا على فرضية اتفاقنا مع صديقنا الحبيب المناضل جعفر خضر بأنّ قوات الدعم السريع أسسها حزب المؤتمر الوطني وليس الجيش، كما ذكر في حوار بودكاست شاهدت جزءا منه، لكن الثابت كذلك أنّ المؤتمر الوطني نفسه أسسته سلطة الانقلاب العسكري بقيادة عمر البشير، وظل المشير البشير رئيسا له منذ التأسيس يعني يمكن أن يكون الدعم السريع بهذه الوضعية (حفيدا) للقوات المسلحة (ولد ولدا). كما أنّ صديقنا جعفر يعلم تمام العلم أن صناعة المليشيات بوساطة الجيش لم تبدأ مع الدعم السريع ولن تنتهي بنهايته، ما لم – والشرط هنا يعود لحديث السيد عقار نفسه – يتم تكوين جيش وطني موحد بقيادة واحدة (وهذا هو ما نصّ عليه الاتفاق الإطاري فانتبه عزيزي القارئ) لأنّ البلد أصبح متداول في أيدي قوات غير نظامية؛ مما أدى لظهور المليشيات القبلية المسلحة التي لا يحكمها قانون، ويمكن أن يتحول السودان إلى بؤر جذب للتنظيمات الإرهابية مثل بوكو حرام والإسلاميين؛ هكذا صرّح عقّار. مضيفا لو انهار السودان السادسة صباحا شرق السودان سينهار في الساعة الرابعة والشمال الساعة الخامسة ودارفور والوسط والنيل الأزرق حدث ولا حرج. بالنسبة لي فهمت انهيار السودان الساعة 6صباحا، لكن ما لم أفهمه هل الجهات التي حدد انهيارها بالساعة خارج نطاق السودان؟ أم يقصد بالسودان بورتسودان؟ أم حدث خطأ في نقل الحديث؟ كما تحدث عن انهيار بقية الدول الإفريقية عدا مصر لأن بنيتها التحتية قوية، هل يقصد بالبنية التحتية الجيش؟ ويقترح مؤتمر دستوري للتوافق بين القوى السياسية للمحافظة على البلاد – يعني دعوته للتفاوض- وتشكيل لجنة للمصالحات الوطنية مستعد لرئاستها – بالضرورة لا يمكن استبعاد حميدتي من مصالحة وطنية – وفي رأيه إن اتفاقية السلام الشامل استطاعت مخاطبة القضايا الجذرية للسودان، لكن حكومة الإنقاذ مسؤولة عن فصل الجنوب، ثم لا ينسى القول بأن حميدتي استغل ضعف الدولة لتوطين عرب الشتات مما يمنح أي سوداني شرعية القتال للحفاظ على الدولة. هنا نسأل الحفاظ على الدولة بالقتال أم بالمصالحة؟
(4)
ثمّ يعود السيد عقار في كلمة له أمام المؤتمر التأسيسي للقوى الشبابية الثورية في بورتسودان ليؤكد وجود العنصرية في جميع مؤسسات الدولة خلال عصر التفاهة (حسب وصفه)، والسائد في عملها إذا جاء شخص يريدون مساعدته يسألونه عن جنسه، لذلك كلها أي مؤسسات الدولة تسير للوراء! ثم يقول: تظهر العديد من الكتل التي تدعي أنّها تمثل مجموعات كبيرة، ويأتيك شخص بمفرده ويخبرك أنّه يملك ألف شخص! يملكهم أم يقودهم؟ لا يمكن أن توجد سبعون أو ثمانون كتلة وعند قراءة رؤيتها تجدها جميعها متشابهة، يا جماعة خافوا الله في السودان! في تقديري الشخصي أن تصريحات الفريق عقار تنبئ عن تململ واضح، هي أقرب لفجة الموت، بسبب أنّ كل الوقائع والنتائج التي خلص إليها، تكاد تكون محفوظة لدى أقل شخص مهتم بما جرى ويجري في بلادنا في عصر التفاهة؛ كما وصفه بصدق، لذلك كانت الثورة وجاءت الدعوات والمطالب والتحالفات السياسية من أجل تلافي ما يتحدث عنه السيد عقّار ولم يك لتلك الجهود من المؤيدين، وعند اندلاع الحرب ظلّت تلك الأصوات منادية بوقف الحرب منذ أسبوعها الأول وعبر المفاوضات، هذا موقف إنساني وسياسي وأخلاقي رصين، ويجب أن يفخر به كل من يطرحه، وحسنا عاد السيد عقار ليؤكد ألا سبيل غيره، بعد أن كان يرفض التفاوض في جدة أو جدادة! وقال لا بديل عن مشروع تأسيس دستوري جديد، ينهي سطوة عهد التفاهة المسيطر، ولعله فطن إلى خطورة هيمنة العناصر الإرهابية مثل كتائب الإسلاميين بعد أن بات مستحيلا مداراة ذلك، مثلما انتبه إلى ما يسمى الاستنفار والمقاومة الشعبية كأغطية لتمرير الأجندة العنصرية والمناطقية والجهوية برداء الوطنية، حسنا انتباهة الفريق، ولو (فجّة موت)، إذ يبدو جليا أنّ الشرق نفسه لم يعد مكانا آمنا له وجماعته في حركات دارفور في زمن تتسيد العنصرية جميع مؤسسات الدولة، أما النيل الأزرق فربما أحتاج مالك عقار إلى صك براءة يقدمه إلى جماعة (البراؤون) حين يعود إليه، ألم يقل إنّ البديل للسودان سيكون ملاذا لانتشار التطرف مثل بوكوحرام والإسلاميين!!