الأعمدة

طلاق ويني مانديلا… انهيار الأسطورة «٦» زواج دام ٣٤ عامًا مليئة بالعواصف والأعاصير وأثمر طفلتين

بقلم / بابكر عيسى أحمد

كنت هناك في ذلك الصباح أمام منزل الرائعة ويني مانديلا في منطقة سويتو بصحبة عدد من الصحفيين من بريطانيا وأستراليا والهند ونيوزيلندا… واستحضرت صورة الرائعة ويني مانديلا الشامخة كرمح إفريقي كما فوجئت في الوقت ذاته بالتناقض الصارخ بين جوهانسبيرج حيث أقيم ومنطقة سويتو التي تعتبر المعقل الرئيسي للوطنيين الأفارقة.
المدينة التي تبعد نحو ٦٨ ميلًا عن جوهانسبيرج والتي يقطنها نحو ١٠ ملايين نسمة تعاني أوضاعًا غير طبيعية حيث تتكدس الأكواخ وبيوت الصفيح جنبًا إلى جنب مع المباني الضيقة والشوارع المتربة والأوساخ المنتشرة… وعندما صعدنا أحد الجسور بدت سويتو من بعيد منبسطة كراحة اليد ومتعبة كمحارب قديم، وكلما اقتربنا تبين لنا أنها مدينة تتنفس بصعوبة حيث لا حدائق للأطفال ولا ساحات خضراء للتنزه ولا ملاعب ولا منتزهات ولا أسواق كبيرة. كانت هذه المقدمة ضرورية قبل الحديث عن واقعة انهيار الأسطورة وطلاق ويني ومانديلا في أبريل عام ١٩٩٢ بعد زواج دام أربعة وثلاثين عامًا كانت مليئة بالعواصف والأعاصير… ووقف العالم على أطراف أصابعه، فعلاقة مانديلا بزوجته ويني ليست علاقة عادية وإنما هي سِفر من التضحيات والبطولات الرائعة، وصورة مشرقة من صور النضال من أجل قضية تهم كل الناس على حد سواء وتهم الضمير الإنساني الذي ظل يرفض على الدوام التفرقة العنصرية بكل ما تمثله من إدانة صارخة للجنس البشري. ما الذي حدث؟… وكيف وصلت العلاقة بين المناضل الزعيم وأم الأمة إلى هذه النقطة الحرجة؟ وكيف اختصرت هذه العشرة الطويلة ومقاسمة الأحزان والأفراح في كلمات بسيطة وقاتلة لتعلن للعالم انتهاء العلاقة بين الزوج الزعيم والمرأة المناضلة.
الإجابة على هذه الأسئلة تستوجب قراءة سريعة في علاقة الزوجين منذ أودع مانديلا السجن في جزيرة روبن في ٢٣ أبريل ١٩٦٤ وربما قبل ذلك بسنوات عندما التقت ويني بزوجها أول مرة في المحكمة الإقليمية بجوهانسبيرج… وتم زواجهما عام ١٩٥٨ و»كانت حياتها معه بدونه» كما تقول ويني، فلم يكن لديه وقت حتى ليأكل، فالوطن يأتي أولًا وأي شيء آخر لديه في المرتبة الثانية. وفي يوم الاثنين من عام ١٩٩٢ أعلن نيلسون مانديلا أمام الصحفيين في جوهانسبيرج أن الانفصال يرجع إلى التوترات التي نشأت بيننا لكنه قال إن حبه لويني لم يقل… ورفض الإجابة على أي سؤال طرحه الصحفيون الذين تزاحموا على مقر المؤتمر الوطني الإفريقي حيث تلا مانديلا بيان الطلاق.
إن تساءلنا عمن هي ويني مانديلا فإنها مناضلة عرفها العمل الوطني الإفريقي منذ نعومة أظافرها، تحملت المسؤولية، فبعد رحيل والدتها تركت «نومزامو ماديكيزيلا» المعروفة بويني والمولودة في سبتمبر ١٩٣٤ المدرسة لمدة عام ونصف لتربي شقيقها الرضيع وعملت في الحقول وحلب الأبقار. واشتعل وعي ويني السياسي حين قص عليها والدها عن حروب أكزوما السبع، وحدثها عن آدم كوك أحد الزعماء السود الذي شوهوا صورته في الكتب المدرسية. ثم شب الحس النضالي عندها مع تدرجها في المراحل المدرسية وفي المرحلة الثانوية عرفت جمعية إفريقيا الشابة الملتحمة بالجماهير وهي منظمة تنبثق من البروليتاريا… ثم حضرت اجتماعات المؤتمر الوطني الذي كان مانديلا رائدها ومعه تامبو دونوكوى.
ودرست في مديند جوهانسبيرج وكانت أول امرأة سوداء تعمل في المجال الطبي حيث عملت أخصائية اجتماعية طبية.
وفي عام ١٩٥٨ التقت ويني بنلسون مانديلا في أكثر من مكان وكان أحدها برفقة أوليفر تامبو وزوجته أدولين، والتقى بها أخيرًا ليستفسر عن إمكانية قيامها بجمع أموال لهدف نضالي معين وتكررت اللقاءات وتم الزواج.
لم يكن زواجًا بالمعنى المتعارف عليه حيث ذهب كل منهما إلى اتجاه، هو إلى أحد السجون العنصرية وهي اعتقلت في منزلها بصفة مستمرة، ولكنها لم تصمت ولم تستكن فقامت بتفجير منزلها متحدية السلطات العنصرية فنقلت من سويتو إلى راندفورت ومنعت من الالتقاء بأي شخص.
وكان لويني مسؤولياتها السياسية كعضو بارز في الاتحاد النسائي لجنوب إفريقيا وفي رابطة نساء المؤتمر الوطني الإفريقي وفي الأنشطة السياسية والاجتماعية والثقافية. عندما أودع نيلسون مانديلا سجن جزيرة روبن الرهيب وقبل ساعات من صدور الحكم بإدانته بالحكم مدى الحياة عام ١٩٦٣ قال لها «سيحقّرون من شأنك… توقعي أن يُقال أنك مسؤولة عن وجودي في السجن، أنت شابة والحياة بلا زوج مليئة بكل أنواع الإهانات، لكنني أتوقع أن تعيشي حسب توقعاتي». هذا ما حدث وآثرت ويني الاضطهاد والوحدة والحرمان وتحملت الكثير في جلد وصبر وواجهت كل صور الاتهام التي يمكن أن تواجه امرأة شابة حسناء تعيش بمفردها. وكمثال للمحاولات الرخيصة التي ظل ينتهجها النظام العنصري أن المصور «بيتر ماجويان» الذي حاول أن يساعدها اعتبروه يقوم بعمل سياسي عدائي، وفي محاكمته حاولوا الإساءة لويني إذ اتهمته المحكمة بأنه وجد في منزل مانديلا، وصدرت الصحف بعنوان «العثور على رجل داخل منزل مانديلا». وكانت ويني تزداد صلابة وهي التي عاشت تجارب الطفولة القاسية وترعرعت في جو سياسي مستفز، وعلى الرغم من ذلك ظلت على موقفها النضالي… وكتب لها مانديلا من داخل زنزانته يقول «لقد ظنوا أنهم بسبب فارق السن بيني وبينك سينجحون في تدميري على مر السنوات لأترك كل شيء»… ويبقى التساؤل قائمًا: هل ما فشلوا فيه طيلة السنوات الماضية قد نجحوا فيه أخيرًا؟
هذه العلاقة الخاصة جدًا والرائعة جدًا والتي ظلت تربط بين الزوجين المناضلين والتي أثمرت عن إنجاب طفلتين هما الآن امتداد لنضال هذه العائلة هما زيناني وزيندزي… كيف تحطمت وتبعثرت إلى شظايا لتشويه هذا النموذج الرائع من التلاحم والوفاء والتضحية. قد يبدو من المدهش أن كل ما كُتب عن تورط ويني مانديلا في قضية الاختطاف والتعذيب المتهمة بها قد جاء عبر صحف بريتوريا والصحف الغربية التي ظلت تترصد خطى هذه المرأة المناضلة منذ سنوات. ما زلت من المناصرين لتلك المرأة «الكنداكة» التي هي مثل كل النساء تحلم بالعطر والعش الدافئ والياسمين وما يميزها عن الأخريات أنها امرأة مثل كل نساء السودان قبلت التحدي ورفضت أن تنحني أو أن تتنازل وظلت شامخة في روعة لا حدود لها… والتحية والتقدير والمحبة للسيدة ويني مانديلا التي تجاوزت الآن السبعين عامًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى