
*د. حمد بن عبد العزيز الكواري .
الدوحة
السودان ليس مجرد بلد عابر في الجغرافيا، بل هو صفحة مشرقة في سجل الحضارة الإنسانية، وطن يمتد بجذوره عميقًا في التاريخ، وشعب عرفته عن قرب، فوجدت فيه من الطيبة والكرم والأصالة ما يندر أن تجده في أي مكان آخر.
كم كنت محظوظًا أن أزور هذا البلد العظيم أكثر من مرة، أن أسير بين آثاره التي تروي مجد أمم سادت وخلّدت اسمها في سجل الإنسانية. رأيت بعيني كيف يقف التاريخ شامخًا هناك، في تلك الأهرامات الشاهدة على عظمة حضارة كوش، في المعابد التي تهمس بأسرار الملوك العظماء، في كل حجر يحكي قصة شعب عريق.
في قطر، كنا ندرك قيمة هذا الإرث الإنساني، وكنا فخورين بأن نساهم في ترميم آثار السودان، في مشروع رائد في الحفاظ على تاريخه، لأننا نؤمن بأن الحضارة ليست ملكًا لدولة واحدة، بل هي أمانة في أعناق كل من يعرف قيمتها. لكن أيادي العبث التي تشعل نيران الحرب لم تكتفِ بقتل الإنسان في السودان، بل امتدت إلى ذاكرته، إلى تاريخه، إلى روحه، فهدمت، ونهبت، وأحرقت.
بالأمس، تلقت الإنسانية ضربة موجعة أخرى، عندما امتدت يد الخراب إلى “المتحف القومي السوداني”، ذلك المكان الذي كان يحفظ للأجيال تراث بلادهم، ويفتخر به كل سوداني، بل كل عربي وأفريقي.
إنه لأمر محزن أن نشهد هذا الدمار، أن نرى التاريخ يُباد تحت أقدام الطامعين، وأن يُسرق ما لا يُعوّض، ويُطمس ما لا يُقدّر بثمن. يمكن بناء جدران جديدة، لكن كيف يُعاد ما سُرق؟ كيف تُبعث من جديد قطع أثرية عمرها آلاف السنين؟ كيف يُعوَّض شعبٌ تُسلب ذاكرته وهو ينزف؟
إن ما يحدث في السودان ليس مجرد حرب على السلطة، بل هو جريمة في حق الحضارة، جريمة تُرتكب أمام أعين العالم، الذي يراقب بصمت، بل ويساهم البعض في إشعالها . وما يؤلم أكثر، أن تُمحى آثار هذا البلد العظيم، بينما أهل السودان يواجهون القتل والتشريد والجوع، ويُترك وطنهم فريسة للصراعات وأطماع العابثين.
رحم الله السودان الذي عرفناه، وحمى الله السودان الذي نحبه،
*دبلوماسي ورجل دولة ومثقف قطري وهو حاليا وزير دولة برتبة نائب رئيس وزراء، ويشغل حاليا منصب رئيس مكتبة قطر الوطنية . شغل منصب وزير وزارة الثقافة والرياضة منذ 1 يوليو 2008 وحتى 2016، حيث ترشح بعد ذلك لمنصب المدير العام لليونسكو وحصل على 28 صوت من جملة 58. وقد عمل سفيرًا لقطر في سوريا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ولدى اليونسكو والأمم المتحدة.