رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

” قصيدة “أعلى الجمال” لإدريس جماع: تحليل فني وثقافي”

بقلم : معاوية أبوالريش
تُعد قصيدة “أعلى الجمال تغار منّا” من روائع الشعر العربي المعاصر، كتبها الشاعر السوداني الكبير إدريس جماع، وحظيت بشهرة واسعة بعدما غناها فنانون كبار مثل الفنان السوداني الراحل سيد خليفة على السلم الخماسي، والفنان السعودي الكبير محمد عبده. على الطريقة الخليجية تتميز هذه القصيدة بعذوبة ألفاظها وعمق معانيها وجمال صورها الشعرية، ما جعلها تخلد في ذاكرة الأدب العربي وتُثير إعجاب المستمعين والنقاد على حد سواء.
” الشاعر إدريس جماع”
إدريس جماع (1922-1980) يُعد من أبرز شعراء السودان في القرن العشرين. عُرف بأسلوبه الرصين وقدرته الفائقة على نسج الصور الشعرية المبتكرة. جمع في شعره بين الأصالة والحداثة، وتميزت قصائده بالرقة والعذوبة والعمق الفكري. كان إدريس جماع أحد رواد الحركة الشعرية في السودان، وترك إرثاً شعرياً غنياً أثرى المكتبة السودانية و العربية.
“تحليل القصيدة”
” اللغة والأسلوب”
تتميز قصيدة “أعلى الجمال” بلغة عذبة سلسة تنساب كالماء العذب. استخدم الشاعر مفردات سهلة ممتنعة تصل إلى القلب مباشرة دون تكلف أو تعقيد. اعتمد على الجمل القصيرة المكثفة التي تحمل معاني عميقة، مثل قوله: “دنياي أنت وفرحتي”، و”أنت السماء بدت لنا”، وهي عبارات موجزة لكنها ثرية بالدلالات العاطفية.
“الصور الشعرية”
برع إدريس جماع في رسم صور شعرية متنوعة في هذه القصيدة:
تشبيه المحبوبة بالسماء في قوله: “أنت السماء بدت لنا”
الاستعارة في وصف الصوت: “سمعت سحرياً يذوب صداه في الأسماع لحنا”
تجسيد المعنويات في قوله: “عصفت به الأشواق”
التشخيص في قوله: “أعلى الجمال تغار منّا”
هذه الصور الشعرية أضفت على القصيدة بعداً جمالياً وفنياً متميزاً.
“الموسيقى الشعرية”
اعتمد الشاعر على بحر الرمل (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن) مع التزامه بقافية النون المردوفة بألف المد (نّا، عنّا، وهنّا، فنّا، معنى، لحنا، دنّا)، مما أعطى موسيقى داخلية متناغمة تناسب موضوع القصيدة العاطفي. هذا الإيقاع الموسيقي المنسجم جعل القصيدة مناسبة للتلحين والغناء.
” المضمون والدلالات”
تدور القصيدة حول المرأة المحبوبة المثالية التي تتجاوز صفاتها الجمال الظاهري لتصل إلى القداسة والإشراق والفن. يتجلى ذلك في قوله: “آنست فيك قداسة، ولمست فيك إشراقاً وفنّا”. كما تعكس القصيدة حالة الوجد والهيام والشوق التي تعتري الشاعر: “هلا رحمت متيماً، عصفت به الأشواق وهنّا”.
يلاحظ أن الشاعر مزج بين الحب العذري الطاهر والحب الحسي المتمثل في قوله: “نلت السعادة في الهوى، ورشفتها دنّاً فدنّا”، مما يعكس نظرة متكاملة للحب جمعت بين الروح والجسد.
” تلحين القصيدة وأداؤها”
” سيد خليفة والسلم الخماسي”
غنى الفنان السوداني الراحل سيد خليفة (1929-2005) هذه القصيدة معتمداً على السلم الخماسي (البنتاتونيك) الذي يُعتبر من سمات الموسيقى السودانية الأصيلة. أضفى هذا السلم الموسيقي طابعاً خاصاً على القصيدة، حيث تناغم مع كلماتها العذبة وأبرز جمالياتها. تميز أداء سيد خليفة بالإحساس العميق والتعبير الصادق عن معاني القصيدة.
” محمد عبده وإعادة التلحين”
قدم الفنان السعودي الكبير محمد عبده رؤيته الخاصة للقصيدة من خلال تلحين جديد يتناسب مع الذائقة الموسيقية الخليجية. استطاع محمد عبده بصوته الشجي وأدائه المتميز أن ينقل روح القصيدة ويعبر عن معانيها، مما ساهم في انتشارها على نطاق واسع في العالم العربي.
” تأثير القصيدة وانتشارها”
ساهم تلحين هذه القصيدة وغناؤها من قبل فنانين كبار في انتشارها وخلودها. أصبحت “أعلى الجمال” جزءاً من الذاكرة الغنائية السودانية و العربية، وباتت نموذجاً للقصيدة الغنائية الناجحة التي تجمع بين جودة النص وروعة اللحن وتميز الأداء.
كما مثلت القصيدة جسراً ثقافياً بين مختلف أرجاء الوطن العربي، حيث انتقلت من السودان إلى شبه الجزيرة العربية وبقية البلدان العربية، مؤكدة على وحدة الذوق الفني والثقافي العربي رغم تنوع أشكاله وتجلياته.
تظل قصيدة “أعلى الجمال تغار منّا” للشاعر السوداني إدريس جماع نموذجاً مشرقاً للشعر السوداني و العربي الأصيل الذي يجمع بين عذوبة اللفظ وعمق المعنى وجمال الصورة. كما تعد مثالاً على التلاقح الفني والثقافي بين أقطار الوطن العربي، حيث استطاعت أن تعبر الحدود وتصل إلى قلوب الملايين من محبي الشعر والطرب في مختلف أنحاء العالم العربي.
لقد نجح إدريس جماع في صياغة تجربة عاطفية صادقة بلغة شعرية راقية، ونجح الفنانان سيد خليفة ومحمد عبده في تقديمها بأسلوب غنائي مؤثر، فكان هذا المزيج الفني الرائع الذي ظل محفوراً في الذاكرة الثقافية العربية عبر العقود.

زر الذهاب إلى الأعلى