رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

” من وحي الوجدان إلى روح الإنسان: رحلة في عوالم “جاي تترجاني” لحسين بازرعة”

بقلم : معاوية أبوالريش
تُعد أغنية “جاي تترجاني” واحدة من أبرز القصائد الغنائية في التراث السوداني الحديث، التي أبدعها الشاعر حسين بازرعة وغناها الفنان الراحل عثمان حسين بصوته الشجي، لتصبح بصمة خالدة في وجدان المستمع السوداني والعربي. هذا المقال يسعى إلى تفكيك مكونات هذا النص الإبداعي، وفهم سر خلوده وتأثيره العميق في النفوس.
” البناء الدرامي للنص”
تتميز قصيدة “جاي تترجاني” ببناء درامي متكامل يعكس حالة إنسانية عميقة، حيث يتنقل النص بين مشاعر متباينة: الألم، العتاب، الرفض، ثم التسامي والسمو الروحي. يبدأ الشاعر بنبرة حازمة في ردِّ المحب الذي عاد بعد الهجر:
جاي تترجاني اغفر ليك ذنبك..
ما كفايه الشفتهُ من نارك وحبك..
يستهل النص بهذه المواجهة القوية، حيث يُقابل الشاعر محاولة الاسترجاع بالرفض والاستنكار، مؤكداً أن جروح الماضي أعمق من أن تُمحى بمجرد عودة. ويستمر هذا الرفض المتصاعد حتى يصل إلى الإعلان الصريح بتباعد الدروب
لا..لا..لا.. يا ناكر دربي اصبح ماهو دربك..
” الرؤية الفلسفية للسعادة”
ينتقل النص بعد ذلك إلى منحى فلسفي عميق حول مفهوم السعادة الحقيقية، حيث يتجاوز الشاعر مشاعر الألم الشخصي إلى آفاق أرحب
كنت تحلم بالسعادة هي غير ما انت فاكر..
هي في كلمة مودة و هي في نبضات مشاعر..
يُقدم بازرعة هنا رؤية فلسفية للسعادة تتجاوز المفهوم المادي السطحي إلى جوهر روحي عميق، فالسعادة مرتبطة بالمودة والمشاعر الصادقة والقلوب المنفتحة، وليست مجرد تحقيق رغبات عابرة. هذا الانتقال يعكس نضجاً فكرياً وعمقاً وجدانياً يميز شعر حسين بازرعة.
” جماليات الصياغة اللغوية”
يتميز النص بلغة شعرية مكثفة تجمع بين فصاحة التعبير ورقة الوجدان. استخدم بازرعة مزيجاً متناغماً من اللهجة السودانية والعربية الفصحى، مما أضفى على النص خصوصية ثقافية وعمقاً دلالياً في آن واحد. نلاحظ في مقاطع مثل:
آآهـ كل زادي في ضياعي قلبي مفتوح للاحبه..
للجمال الاشجى روحي في شعوري سحرة شبّ..
يستخدم الشاعر تراكيب لغوية تجمع بين الإيقاع الموسيقي العذب والدلالات العميقة، فكلمات مثل “زادي” و”ضياعي” و”الأشجى” تحمل شحنات عاطفية كثيفة، وتعكس براعة في اختيار المفردات التي تتناغم مع الحالة الشعورية.
” ثنائية الحب والفن”
من المحاور الرئيسية في هذا النص علاقة الشاعر المعقدة بين الحب كتجربة شخصية والفن كرسالة سامية. يتجلى ذلك في المقطع
و رسالة فني سامي تدعُه للخير و المحبه..
إلا قلبك ياحبيبي لسه ما ادرك وشبّ..
هنا يتضح أن الشاعر يرى في الفن رسالة أخلاقية وإنسانية، ويتحسر على من لم يرتقِ بقلبه ليفهم هذه الرسالة. هذه الثنائية تعكس وعياً فنياً متقدماً لدى بازرعة، حيث يتجاوز الغناء العاطفي المباشر إلى آفاق فكرية وفلسفية أعمق.
” الختام بين التسامح والاستعلاء”
يختتم النص بمقطع يجمع بين التسامح والاستعلاء الروحي:
حِبي سامحتك لحبى ما لاجلك..
للمعانى الكُنت انظم فيها حولك..
و الحقيقه كل امليّ ابقى جنبك..
اصلى بعدك ما هويت .. و لا حتى قبلك..
هذا الختام يمثل ذروة النضج الفني والإنساني في النص، حيث يتجاوز الشاعر الألم الشخصي إلى مرحلة التسامي، فهو يسامح لا لأجل الآخر بل احتراماً للحب نفسه وللمعاني السامية التي كان ينظمها. وتأتي الجملة الأخيرة “اصلى بعدك ما هويت.. ولا حتى قبلك” لتعبر عن حالة من الوفاء المطلق والتفرد في التجربة العاطفية.
” الصورة الموسيقية والأداء الصوتي”
لا يمكن فصل قيمة هذا النص عن الأداء الصوتي المميز للفنان عثمان حسين، الذي استطاع بحسه الفني المرهف أن يترجم الطاقة الشعرية إلى طاقة صوتية، فجاء أداؤه متناغماً مع التحولات الدرامية في النص، بدءاً من حدة الرفض وانتهاء بسكينة التسامح
يمثل نص “جاي تترجاني” نموذجاً راقياً للشعر الغنائي السوداني الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الخصوصية الثقافية والإنسانية العالمية. استطاع حسين بازرعة من خلال هذا النص أن يرسم خريطة للمشاعر الإنسانية في تعقيدها وعمقها، وأن يقدم رؤية فلسفية للحب والفن والحياة تتجاوز الأطر التقليدية.
وإذا كان لنا أن نختزل سر بقاء هذا النص وتأثيره الدائم، فهو يكمن في قدرته على لمس المشترك الإنساني في تجارب الحب والألم والتسامي، وفي صياغته بلغة شعرية تجمع بين جمال الشكل وعمق المضمون، مما جعله نصاً خالداً يتجاوز حدود الزمان والمكان.

زر الذهاب إلى الأعلى