
”
بقلم : معاوية أبوالريش
” القصيدة كاملة”
“من غير ميعاد”
كلمات: التجاني سعيد محمود
أداء: محمد وردي
من غير ميعاد
و اللقيا أجمل في الحقيقة
بلا إنتظار
صحيتي في نفسي الوجود
و رجعتي لعيوني النهار
كل الطيوب الحلوة
يا مولاتي و الجيد الرقيق
و اللفتة و الخصل
اللي نامت فوق تسابيح البريق
و خطاكي
و الهدب المكحل
و فتنة التوب الأنيق
في لحظة مرت كالظلال
يعبر رؤاي إحساس عميق
فتحتي جرح الليل عزا
من صمتي ما قادر أفيق
لو مرة بعدك
يا زمان الغربة تجمعنا الصدف
أنا كيف أعود
من طيبة أول نظرة
في الدار منكسف
واااااااااااااااااا
وا ضيعة الوتر
اللي ما غنيت معاهو و لا عزف
من صدفة عابرة بلا سلام
قلبي الغريب في الهم نزف
يا ريتني ما شفتك ربيع
و لا كان يلازمني الأسف
ضااااااااع
أنا مني ضاع الكلام
أنا مني ضاع ضاع الكلام
ماتت حروف اللقيا قبال أهمسها
و الله ما نامت محاسنك لحظة
لا الجـــرح إتـنـســـــى
لي الليلة ما وشوش نسيم
في روضو ما غرد مساء
لي الليلة ما سافر عبير
في الطيب يغازل نرجسة
لي الليلة يا حبي الكبير
في حرقة لافيني الأسى
صحيتي في نفسي الوجود
و رجعتي لي عيوني النهار .
تُعد قصيدة “من غير ميعاد” للشاعر السوداني التجاني سعيد محمود، والتي غناها الفنان الكبير الراحل محمد وردي، من أعمق وأجمل القصائد الغنائية في الوجدان السوداني، فهي تمثل نموذجاً فريداً للتناغم بين الشعر والموسيقى. تجتمع فيها عناصر البلاغة الشعرية مع الإحساس المرهف لتنسج معاً لوحة فنية متكاملة تخاطب الوجدان وتلامس أعماق الروح.
” أولاً: البناء الشعري والموسيقي”
تتميز القصيدة ببناء شعري متماسك يتدفق بسلاسة بين المقاطع المختلفة، حيث نجد أن الشاعر اعتمد على تقنية التنويع في القوافي والإيقاعات مما أعطى النص حيوية وتجدداً مستمراً. وقد استطاع محمد وردي بحسه الموسيقي الفريد أن يستثمر هذا التنوع الإيقاعي في بناء لحن متعدد الطبقات يتناغم مع المضمون العاطفي للقصيدة.
نلاحظ كيف يبدأ المقطع الأول بإيقاع هادئ يعبر عن المفاجأة الجميلة للقاء:
” من غير ميعاد
و اللقيا أجمل في الحقيقة
بلا إنتظار
صحيتي في نفسي الوجود
و رجعتي لعيوني النهار ”
فالقافية المتنوعة تتناسب مع حالة الدهشة والفرح الذي يغمر الشاعر، وتتحول الموسيقى الداخلية للأبيات لتصبح جزءاً أساسياً من الدلالة، فكلمات مثل “صحيتي” و”رجعتي” تنبض بالحياة والتجدد.
” ثانياً: الصور الشعرية البديعة”
ترتكز جماليات النص على غنى الصور الشعرية التي تتراوح بين الوصف المباشر والاستعارات العميقة:
“المزج بين الحسي والمعنوي”
“كل الطيوب الحلوة
يا مولاتي و الجيد الرقيق
و اللفتة و الخصل
اللي نامت فوق تسابيح البريق ”
في هذا المقطع، يمزج الشاعر بين الصفات الحسية (الجيد الرقيق، الخصل) والمعنوية (تسابيح البريق) في نسيج متكامل يجعل من المحبوبة كائناً متعدد الأبعاد، حيث تتحول التفاصيل الجسدية إلى معانٍ روحية عميقة.
“التشخيص والأنسنة”
“فتحتي جرح الليل عزا
من صمتي ما قادر أفيق ”
هنا نجد صورة بديعة حيث يتحول الليل إلى كائن مجروح، ويصبح الصمت سجناً روحياً للشاعر. هذه الأنسنة للمفاهيم المجردة تعكس القدرة الإبداعية للشاعر في تحويل المشاعر إلى مشاهد متخيلة.
“الصور المتضادة”
“صحيتي في نفسي الوجود
و رجعتي لعيوني النهار ”
مقابل:
” ضاع أنا مني ضاع الكلام
ماتت حروف اللقيا قبال أهمسها”
هذا التضاد بين الإحياء (صحيتي، رجعتي) والفقدان (ضاع، ماتت) يعكس التوتر العاطفي الذي يعيشه الشاعر، وهو ما يُكسب القصيدة عمقها الإنساني.
” ثالثاً: البعد الدرامي في القصيدة”
تتميز القصيدة بوجود بناء درامي محكم يتطور عبر المقاطع المختلفة:
“بداية اللقاء المفاجئ “من غير ميعاد” وهو المقطع الذي يصف فرحة اللقاء غير المتوقع.
“الانبهار بالجمال المقطع الذي يصف تفاصيل المحبوبة وجمالها الأخاذ”
ألم الفراق المحتمل “لو مرة بعدك يا زمان الغربة تجمعنا الصدف” ، وهو تصوير للخوف من لقاء قادم قد يكون باهتاً.
الفقدان والضياع “ضاع أنا مني ضاع الكلام” وهو ذروة الألم والفقدان.
العودة إلى الأمل “صحيتي في نفسي الوجود” وهو تكرار للبيت الأول في نهاية القصيدة كإشارة للدورة المستمرة للحياة والأمل.
هذا البناء الدرامي المتصاعد يشبه إلى حد كبير السيمفونية الموسيقية، وهو ما استثمره محمد وردي في أدائه المتميز الذي جعل من القصيدة تحفة فنية متكاملة.
” رابعاً: اللغة الشعرية وخصوصيتها”
تجمع لغة القصيدة بين سلاسة التعبير وعمق الدلالة، مع توظيف مفردات من البيئة السودانية مثل “منكسف” بمعنى خجلان، و”الخصل” بمعنى خصلات الشعر، وهو ما أضفى على النص خصوصية ثقافية وهوية متفردة.
كما نلاحظ قدرة الشاعر على توظيف الاستفهام الضمني والأسلوب التعجبي:
” أنا كيف أعود
من طيبة أول نظرة
في الدار منكسف ”
وكذلك توظيف النداء بطريقة موحية:
“يا ريتني ما شفتك ربيع
و لا كان يلازمني الأسف ”
” خامساً: الأداء الغنائي وتكامل الفنون”
لا يمكن الحديث عن قصيدة “من غير ميعاد” دون الإشارة إلى الأداء الاستثنائي للفنان الراحل محمد وردي الذي استطاع أن يحول الكلمات إلى نبضات روحية. تميز وردي بقدرته الفائقة على استخراج المعاني العميقة من النص الشعري وترجمتها إلى ألحان وأداء صوتي ينقل المستمع إلى عوالم القصيدة.
استطاع وردي أن يوظف المدود الصوتية في كلمات مثل “واااااااااااااااااا” و”ضااااااااع” لتصوير عمق الألم، كما استخدم التنويعات اللحنية المناسبة لكل مقطع بما يتناسب مع حالته العاطفية. وبذلك تكاملت الفنون الثلاثة: الشعر والموسيقى والغناء في عمل إبداعي واحد.
” سادساً: الأبعاد الإنسانية في القصيدة”
تتجاوز القصيدة كونها مجرد نص غزلي لتصبح تأملاً عميقاً في مفاهيم إنسانية كبرى مثل: المفاجأة ودورها في تغيير حياة الإنسان “من غير ميعاد” ، الجمال كقوة مؤثرة في الوجود “صحيتي في نفسي الوجود”
الندم على ما فات “يا ريتني ما شفتك ربيع” ، الصمت والعجز عن التعبير”ضاع أنا مني ضاع الكلام”
وهذه المعاني الإنسانية العميقة هي ما جعل القصيدة قادرة على مخاطبة وجدان المتلقي في كل زمان ومكان.
تبقى قصيدة “من غير ميعاد” نموذجاً فريداً للتكامل الفني بين الكلمة واللحن والأداء، حيث استطاع التجاني سعيد محمود بشاعريته الفذة ومحمد وردي بصوته الاستثنائي أن يقدما للوجدان السوداني تحفة فنية خالدة تتجدد مع كل استماع. وتظل القصيدة شاهدة على قدرة الفن الأصيل على تجاوز حدود الزمان والمكان لتصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية ومن التراث الإنساني العام.
القصيدة تمثل نموذجاً لما يمكن أن يصل إليه الإبداع السوداني حين تجتمع الموهبة الفذة مع الأصالة والعمق الفكري والعاطفي، وهي دعوة لنا جميعاً لإعادة اكتشاف كنوز التراث الغنائي السوداني وتذوقها بعين تدرك جمالياتها وأبعادها الإنسانية المختلفة.