رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

وجهان لعملة واحدة: حسين خوجلي و عثمان ميرغني ودورهما في تضليل الرأي العام السوداني”


بقلم : معاوية أبوالريش
في مسرح السياسة السودانية المعقد، برز إعلاميون لعبوا أدوارًا محورية في تشكيل الرأي العام وتوجيهه. من بين هؤلاء، يبرز اسمان كانا الأكثر تأثيرًا على مدى العقود الماضية: حسين خوجلي وعثمان ميرغني. ما يميز هذين الإعلاميين ليس فقط موقعهما البارز في الساحة الإعلامية السودانية، بل قدرتهما الفائقة على تبديل المواقف والأدوار حسب تغير الظروف السياسية، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول مصداقية الإعلام وعلاقته بالسلطة في السودان.
” حسين خوجلي: المعارض المصطنع في عهد الإنقاذ”
لم يكن حسين خوجلي، مالك صحيفة “ألوان” وقناة “أمدرمان الفضائية”، مجرد إعلامي عادي في مشهد الإعلام السوداني. كان أحد الوجوه البارزة التي أتقنت لعبة “المعارضة المضبوطة” خلال حكم نظام الإنقاذ. فبين الحين والآخر، كان خوجلي يظهر منتقدًا لسياسات الحكومة وقراراتها، موحيًا للمواطن البسيط بوجود مساحة للنقد وهامش من حرية التعبير.
ما لم يكن واضحًا للكثيرين هو أن هذه “المعارضة” كانت مدروسة ومتفقًا عليها مع النظام نفسه. فقد كان خوجلي ينتمي إلى ذات الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، وكانت انتقاداته تمثل صمام أمان يتيح للنظام التنفيس عن احتقان الشارع دون المساس بجوهر سياسته أو هيكله. لقد كان يمارس دورًا مزدوجًا: معارض في الظاهر، موالٍ في الجوهر.
كانت استراتيجيته تقوم على توجيه انتقادات محدودة لبعض الوزراء أو السياسات الفرعية مع تجنب نقد القيادة العليا للنظام أو المساس بمرتكزاته الأساسية. كما عمل على إظهار نفسه كصوت للمعارضة، مع البقاء ضمن “خطوط حمراء” مرسومة سلفًا، واستخدام منابره الإعلامية لإيهام الجمهور بوجود تعددية إعلامية وحرية للرأي.
هذا الدور المزدوج سمح للنظام بالادعاء أمام المجتمع الدولي بوجود حرية صحافة في السودان، بينما يستمر في القمع الفعلي لأصوات المعارضة الحقيقية.
“عثمان ميرغني: التحول مع تغير الرياح السياسية”
يمثل عثمان ميرغني، الصحفي والإعلامي المعروف، نموذجًا آخر للتحولات الدراماتيكية في المواقف السياسية. فمع اندلاع ثورة ديسمبر ، برز ميرغني كمناصر ظاهري للثورة، رغم خلفيته المعروفة بارتباطها بالحركة الإسلامية.
تجلى هذا التحول بوضوح من خلال مشاركته في مخاطبة المعتصمين أمام القيادة العامة للجيش، وتوجيه انتقادات حادة لنظام البشير وحزب المؤتمر الوطني. كما عمل على تقديم نفسه كمدافع عن مطالب الثورة ومناصر للتغيير، واستثمار موجة الغضب الشعبي للظهور بمظهر المنحاز للشعب.
لكن الأحداث اللاحقة، وخاصة بعد اندلاع الحرب الأخيرة في السودان، كشفت عن تحول جديد في مواقفه. فمع عودة بعض قيادات الحركة الإسلامية للمشهد السياسي، وظهور تحالفات جديدة، بدأت مواقف ميرغني تتبدل مرة أخرى، متخليًا عن مناصرته الظاهرية للثورة، ليتماشى مع المصالح المتغيرة للتيار الذي ينتمي إليه.
” العلاقة بين الإعلام والسلطة: دروس من التجربة السودانية”
يقدم لنا هذان النموذجان دروسًا مهمة حول العلاقة المعقدة بين الإعلام والسلطة في السودان.
الإعلام الموجه كأداة للسيطرة:
استخدم نظام البشير والحركة الإسلامية نموذج “المعارضة المضبوطة” كوسيلة لإدارة الرأي العام وامتصاص الغضب الشعبي. فبدلاً من قمع جميع الأصوات المعارضة، تم السماح لبعض الأصوات المحسوبة بهامش من النقد، مع ضمان بقائها ضمن حدود لا تهدد أساسات النظام.
كما أظهر كل من خوجلي وميرغني قدرة استثنائية على تغيير المواقف والخطاب بناءً على الظروف السياسية المتغيرة. هذه المرونة المفرطة تثير أسئلة جوهرية حول الأسس الفكرية والأيديولوجية التي يقوم عليها العمل الإعلامي في السودان.
وتتجلى براعة هذين الإعلاميين في قدرتهما على تقديم أنفسهما كممثلين لشرائح مختلفة من الرأي العام، بينما يحافظان في الواقع على ولاءاتهما الحقيقية. هذه المراوغة تسببت في تضليل قطاعات واسعة من الشعب السوداني، وخاصة من يفتقرون إلى الوعي السياسي الكافي.
ورغم ادعاءات الحياد والمهنية، إلا أن الانتماءات السياسية لهذين الإعلاميين كانت العامل الحاسم في تشكيل مواقفهما ومضمون خطابهما الإعلامي. هذا يسلط الضوء على إشكالية الفصل بين المهنية الإعلامية والانتماءات السياسية في السياق السوداني.
” تضليل الرأي العام: استراتيجيات وتقنيات”
كان نجاح خوجلي وميرغني في تضليل الرأي العام نتيجة لعدة استراتيجيات متقنة.
الخطاب المزدوج: اعتمد كلاهما على خطاب مزدوج يخاطب فئات متناقضة من الجمهور في الوقت نفسه. فيمكن لمؤيدي النظام أن يجدوا في خطابهما ما يطمئنهم، بينما يجد المعارضون أيضًا ما يبدو وكأنه دعم لقضاياهم.
التلاعب بالمشاعر الوطنية والدينية:
غالبًا ما استخدم الإعلاميان الخطاب الديني والوطني للتأثير على العواطف وتشتيت الانتباه عن القضايا الجوهرية. هذا الخلط بين ما هو سياسي وما هو ديني أو وطني سمح بتمرير مواقف سياسية تحت غطاء الدفاع عن الهوية أو القيم.
استغلال أزمات الهوية والانتماء:
نجح الإعلاميان في استغلال أزمات الهوية التي يعيشها المجتمع السوداني، بتقديم خطاب يدغدغ مشاعر الانتماء الجهوي أو القبلي أو الإيديولوجي، مما أسهم في تعميق الانقسامات المجتمعية.
الاحتماء بـ”الخبرة الإعلامية”
استخدما مكانتهما كإعلاميين “مخضرمين” لإضفاء مصداقية على مواقفهما المتقلبة، مما منحهما غطاءً للتأثير على الرأي العام دون مساءلة عن تناقضاتهما.
الدرس المستفاد: ضرورة الوعي النقدي: إن أهم درس يمكن استخلاصه من تجربة هذين الإعلاميين هو ضرورة تطوير وعي نقدي لدى الجمهور السوداني. يتطلب ذلك: التمييز بين النقد الموضوعي والنقد المصطنع الذي يخدم أجندات محددة.
فهم خلفيات الإعلاميين وانتماءاتهم السياسية وتأثيرها على خطابهم.
تطوير أدوات تحليل نقدي لمحتوى وسائل الإعلام.
دعم الإعلام المستقل الحقيقي وإعلاء قيم المهنية والمصداقية.
يبقى نموذج حسين خوجلي وعثمان ميرغني شاهدًا على تعقيدات العلاقة بين الإعلام والسلطة في السودان. إن القدرة على التحول وتغيير المواقف وفقًا لتغير موازين القوى السياسية تعكس أزمة الإعلام السوداني وارتهانه للمصالح السياسية على حساب المهنية والمصداقية.
و في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها السودان، يصبح من الضروري إعادة تقييم دور الإعلام في المجتمع، وبناء منظومة إعلامية جديدة تقوم على أسس المهنية والمصداقية والاستقلالية الحقيقية. فقط حينها يمكن للإعلام أن يلعب دوره الحقيقي كسلطة رابعة تراقب وتساءل وتنير، بدلاً من أن يكون أداة للتضليل وخدمة المصالح السياسية الضيقة.
إن تجربة خوجلي وميرغني تذكرنا بأن الحرية الإعلامية الحقيقية لا تتحقق بوجود منابر إعلامية متعددة فحسب، بل بوجود ممارسة إعلامية مسؤولة ومهنية، تضع مصلحة المجتمع والحقيقة فوق كل اعتبار. وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه الإعلام السوداني في مرحلة ما بعد الثورة والحرب وعودة النظام المدني الديمقراطي .

زر الذهاب إلى الأعلى