رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

من يقود المركب ؟؟ – يوسف عمارة أبوسن

أحداث متسارعة تعصف بالبلاد ، حرب مستعرة وحسم أزفت ساعته واقتربت، لكن تحت هذه العناوين هناك أزمة أخرى أكبر وأعمق ، فإن كان الظاهر أن مدينة بورتسودان هي بؤرة السلطة والنفوذ، لكن هذه السلطة كما يبدو تلفها الضبابية ويعمها الاضطراب وذلك من واقع ما نراه في أفعالها وقراراتها، فالقرارات التي أتخذت مؤخرا ، وأخطرها قرار مقاطعة دولة الإمارات، لم تسر خطوات تنفيذها على وجه يوحي بأن كابينة القرار واحدة أو تعمل بتنسيق أو إنسجام، فقضية الإبقاء على التمثيل القنصلي وعدم إصدار قرار بوقف تصدير الذهب، هذا الأمر يوحي بأن هناك رؤوس متعددة داخل الدولة بل داخل مجلس السيادة نفسه على وجه أدق، واليوم ترد الإمارات بقرار يكافئ ذلك التردد والإرتجاف بعد قيامها بطرد ممثلي بعثة السودان القنصلية وإحتجازهم وإهانتهم بشكل ينافي الأعراف الدبلوماسية، لكن ذلك ليس مستغرباً من دولة ظلت ولا تزال تصدر آلة القتل السائبة وتنفق مالها لتفتيت الدولة السودانية وتدمير بنيتها التحتية، ولا أستبعد أن تقوم دولة العدوان غدا بخطوة أخرى لتكمل حلقة الإذلال للدولة السودانية بأن تمنع تداول وشراء الذهب السوداني الذي حتى الآن لم يصدر قرارا بمنع تصديره لدولة العدوان ..

المراقب لهذه الحالة لا يحتاج إلى عناء التحليل ليتبين حجم الفوضى المتجذرة؛ خصوصا إذا أضفنا للوقائع أعلاه معضلة تعيين مسؤولين معينين وتعثر إستلامهم لمهامهم، كما في حالة السفير دفع الله الحاج علي الذي عين وزيرا لشؤون مجلس الوزراء والسفير عمر صديق وزير الخارجية المكلف، والذين تم تعيينهما قبل أسبوعين، أضف لذلك المستشارين الإعلاميين الذين تم تعيينهم بوزارة الخارجية قبل شهرين ولم يتم تسليم أي منهم مهامه حتى الآن ..
هذا التخبط المريع يكشف عن خلل بنيوي عميق ويعيد طرح تساؤل يلح على أذهان الكثيرين: من يمسك بزمام الأمور حقاً في السودان؟؟ ومن يقود المركب والبلاد تمر بهذه المرحلة الدقيقة؟ فهذا التردد البين في إتمام إجراءات التعيين والتكاليف المعلقة وعدم القدرة على الحسم في مسألة مباشرة المسؤولين لمهامهم، هذا ليس مجرد عارض إداري يمكن تجاوزه بسهولة، بل هو تجسيد لداء مقعد يستشري في جسد الدولة، إنها إشارة فاضحة تعلن أن مركز القرار في الدولة ليس موحداً، وأن السلطة موزعة أو متنازع عليها في الخفاء، وأن من يفترض بهم قيادة البلاد في هذا المنعطف التاريخي الحاسم يفتقرون إلى البوصلة التي تهديهم نحو رؤية واضحة، ويستشري بينهم التنافس السلبي، وهو ما يفقدهم القدرة على تسيير دولاب الدولة ..
فمراكز القوى المتصارعة تجعل كل القرارات تلوح في الأفق ثم سرعان ما تتلاشى ، والتكليفات يعلن عنها ثم تبقى حبيسة الأدراج، في مشهد يعكس غياباً لأبسط مقومات إدارة شؤون الدولة، وافتقار شبه تام إلى إدراك ماهية الدولة الحقيقية، فالدولة ليست مجرد كرسي للسلطة أو مجموعة من الأفراد يتحكمون في بقعة جغرافية محددة، بل هي نسق مؤسسي متكامل، وقانون نافذ، ومسؤولية راسخة تجاه المواطنين، ثم رؤية تستشرف المستقبل وتتجاوز حدود اللحظة الراهنة ..
لكن ما نراه الآن هو انغماس في معتركات الصراع حول إثبات النفوذ وفق حسابات ضيقة وإهمال سافر لصفة الدولة ووظائفها المدنية الأساسية، لذلك يبدو جلياً أن منطق إدارة الأزمة قد طغى على حكمة بناء الدولة ، وأن القرارات المتخذة هي أقرب إلى ردود أفعال آنية منها إلى خطط محكمة تستند إلى رؤية بعيدة المدى، فإلى جانب القصور في الكفاءات في مواقع تقديم المشورة، فإن صناع القرار تحيط بهم بيئة مسمومة تسهم في تغييب الحقائق وتغبيش الرؤية، والحديث هنا عن ظاهرة “المطبلين” المستشرية في أروقة السلطة ، فقد صارن سلطة (الجوكية) والطبالين هي الأبرز في هذه المرحلة، ولا رأسمال لهؤلاء سوى المديح والثناء الأجوف، فهم يصدون أي محاولة للنقد البناء وتقييم الأخطاء بموضوعية، ويمتهون تغييب القيادة عن الواقع ، وذلك عبر تقديم صورة مزيفة للوضع المرير الذي يكابده الشعب السوداني على الأرض ، فهذه الحلقة المفرغة من التضليل والمجاملات الزائفة تحول دون وصول أي فكرة نيرة أو رؤية صادقة، وتترك صناع القرار يعيشون في وهم بعيد عن حقيقة ما يجري، ما يجعل القرارات المتخبطة والضارة أمراً لا مفر منه .
عليه فإن هذا الارتباك وهذا التزييف للحقائق ستكون عواقبه وخيمة وتداعياته مزعجة، فكيف يمكن إنهاء حرب طاحنة مدمرة بقيادة غير منسجمة أو مبهمة؟ وكيف يمكن معالجة أزمة إنسانية واقتصادية قاسية بقرارات يشوبها التردد وتفتقر إلى العمق في الرؤية؟ وبلا شك فإن هذا المشهد المأساوي يزيد من وطأة المعاناة على كاهل الشعب السوداني ، ويهدد بتقويض أي أمل في استعادة الدولة بمعناها الحقيقي، كما أن ثقة الناس، وهي الركيزة الأساسية لأي حكم رشيد، تتضاءل يوماً بعد يوم في ظل هذه الضبابية التي تكتنف المشهد .
وإجمالاً، فإن تعثر أمور إدارية كاستلام مسؤلين لمهام محددة في المؤسسات المدنية ، أو تنفيذ قرارات جوهرية كقرار قطع العلاقات وتصنيف دولة الأمارات كدولة عدوان، هذه الأمور تعد بمثابة إنذار خطير يكشف عن أزمة حكم عميقة الجذور، وأزمة وعي بمتطلبات الدولة وضروراتها، سببها تأثير بيئة فاسدة ومحيط موبوء بضيق الأفق يحجب الرؤية الصائبة ويمنع اتخاذ القرار السليم أو تنفيذه ، ومن المؤكد فإن هذا الوضع يسهم بشكل مباشر في تقديم إجابة قاسية وواقعية على سؤال “من يقود المركب ؟”، وهو مؤشر خطير يوحي بأن دفة القيادة ليست – بالكامل – في يد جهة واحدة تمتلك الوضوح والإرادة اللازمتين لإدارة شؤون البلاد في هذا الظرف العصيب.
ولذلك، فإن ما يحتاجه السودان اليوم من الفريق أول البرهان أكثر من أي وقت مضى هو التحرر من الدوائر الضيقة التي تمارس التطبيل والتضليل، وركل مراكز القوى التي توازيه وتتصارع معه ثم تتصارع فيما بينها في ذات الوقت ، فالأهم أن يقود هو المركب بنفسه، فإن أغرقه فليتحمل مسؤوليته أمام الله والتاريخ، وإلا فلا جدوى من تقسيم دماء الفشل والإتكاء على التلاوم ورمي المسؤولية على مراكز القوى والقطط السمان ، وهذا الأمر يستدعي منه الانفتاح بشكل أوسع على النخب والكفاءات والعلماء والمفكرين الذين يذخر بهم المجتمع السوداني، لعله بذلك يتمكن من إنقاذ الوطن من حافة الانهيار الوشيك، تقديرا لأرواح آلاف الشهداء الذين صعدوا مؤمنين بأن تضحيتهم ما هي إلا قربانا لحياة كريمة وعيش آمن لمن يليهم، وعزاءاً لملايين المتضررين من الحرب والذين يطمحون في وطنٍ آمن مستقر يستعيدون فيه حيواتهم ويبدأون من جديد ..

ثم .. عشان عيون أطفالنا ما تضوق الهزيمة ..

يوسف عمارة أبوسن
17 مايو 2025

زر الذهاب إلى الأعلى