رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

جدلية القدر والإرادة في “المستحيل”: قراءة في البنية النصية والدلالة الفلسفية “

“بقلم : معاوية أبوالريش
مدخل نظري:
تشكل كلمات أغنية “المستحيل” نموذجاً متقدماً في الكتابة الشعرية السودانية المعاصرة، حيث تتجاوز حدود الغنائية التقليدية لتقدم نصاً فلسفياً محكم البناء يستثمر آليات السرد الدرامي والحوار الداخلي في معالجة إشكالية وجودية كبرى هي العلاقة الجدلية بين الحرية الإنسانية والحتمية الكونية.
” البنية التركيبية والنسق الإيقاعي”
أ) الدائرية النصية والانغلاق الدلالي
يقوم النص على بنية دائرية محكمة تبدأ بصيغة التمني الشرطي “لو بإيدي” وتختتم بالتسليم القدري “يا المسير وماك مخير”، مما يخلق انغلاقاً دلالياً يحاكي دورة الوعي عند الذات الشاعرة من التمرد إلى الخضوع. هذه الدائرية ليست مجرد تقنية شكلية، بل تجسيد لحركة الفكر الجدلي الذي ينطلق من النقيض (التمني) ليصل إلى النقيض المضاد (التسليم) مروراً بالتركيب (الحب كقدر).
ب) التوازي النحوي والتكرار الوظيفي
يستثمر النص تقنية التوازي النحوي في مطلعه:
“لو بإيدي كنت طوعت الليالي
لو بإيدي كنت زللت المحال”
هذا التوازي يخلق إيقاعاً تصاعدياً يبدأ بتطويع الزمن (الليالي) وينتهي بإزالة الاستحالة (المحال)، مما يشكل تدرجاً في السيطرة المرغوب فيها من الجزئي (الزمن) إلى الكلي (قوانين الوجود). التكرار هنا وظيفي وليس زخرفياً، إذ يحاكي آلية الوسواس النفسي والتفكير الدوري عند المحب المقهور.
“التحليل البنيوي للمستويات الدلالية”
المستوى الأول: الذات والزمن
“لو بإيدي كنت طوعت الليالي
والأماني الدايرة في دنياي ماكانت محال”
تتجلى هنا رغبة الذات في تملك الزمن وترويضه، حيث تحمل كلمة “طوعت” دلالة السيطرة والهيمنة. الليالي هنا ليست مجرد وحدة زمنية بل رمز للقدر والمصير، فالليل في التراث الشعري العربي مقترن بالحزن والانتظار والقلق الوجودي. أما “الأماني الدايرة” فتشكل استعارة مكانية تصور الرغبات كأجرام سماوية تدور في فلك الذات، مما يضفي على التجربة الشخصية بُعداً كونياً.
المستوى الثاني: جدلية الحرية والجبر
“دي الإرادة والمقدّر ما بنجيب ليه بديل
دي الإرادة أجبرتني في هواكم من قبيل”
يقدم النص هنا أعمق مستوياته الفلسفية، حيث يواجه إشكالية الجبر والاختيار التي شغلت الفكر الإسلامي والفلسفة العربية لقرون. استخدام كلمة “الإرادة” مرتين بدلالتين متضادتين (الإرادة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية المقيدة) يخلق توتراً نصياً يعكس التوتر الوجودي للذات الإنسانية.
الفعل “أجبرتني” يحمل مفارقة لغوية عميقة، إذ كيف يمكن للحب – وهو في جوهره انجذاب عاطفي – أن يكون إجباراً؟ هذه المفارقة تكشف عن تصور الشاعر للحب كقوة كونية تتجاوز الاختيار الفردي.
المستوى الثالث: التبادلية الجبرية
“غصباً عني وغصباً عنك
انت حبيتني وهويتك
لو بإيدنا من زمان
كنت خليتني ونسيتك”
تتجلى هنا عبقرية النص وعبقرية إسماعيل حسن في تصوير الحب كقوة خارجة عن إرادة الطرفين معاً. التكرار في “غصباً عني وغصباً عنك” يؤكد على التماثل في الموقف، فكلا الطرفين أسير لنفس القوة القدرية. هذا التصور يتجاوز النظرة الرومانسية التقليدية للحب كاختيار متبادل ليقدمه كحتمية وجودية.
العبارة الختامية “كنت خليتني ونسيتك” تحمل ذروة الألم الوجودي، فالنسيان هنا ليس مجرد محو للذكرى بل خلاص من القدر ذاته، مما يجعله أمنية مستحيلة.
المستوى الرابع: الاعتراف الوجودي
“والنهاية..
انت عارف وانا عارف
لو بإيدي كان هديتك”
يشكل هذا المقطع لحظة الكشف والاعتراف المتبادل، حيث تصل الذات إلى مرحلة الوعي الكامل بطبيعة موقفها. استخدام “النهاية” كعتبة نصية يشير إلى انتهاء مرحلة الوهم وبداية مرحلة القبول.
المستوى الخامس: الحب كقوة تتجاوز الذات.
“أصلو حبي أقوى وأكبر من إرادتي
وانا حاسس في جحيم نارك سعادتي
واللهيب البكوي في روحي في ذاتي
هو إنت”
يبلغ النص هنا ذروته الشعرية والفلسفية، حيث يقدم مفهوماً معقداً للحب كقوة تتجاوز الذات وتعيد تشكيلها. التعبير “أصلو حبي أقوى وأكبر من إرادتي” يحمل اعترافاً بهزيمة الذات أمام قوة أعظم منها.
الاستعارة “جحيم نارك سعادتي” تقدم واحدة من أعمق المفارقات في الشعر العربي، حيث يصبح الألم مصدراً للسعادة، والعذاب طريقاً للنعيم. هذا التصور يتصل بالتراث الصوفي الذي يرى في المعاناة طريقاً للتطهر والوصول.
عبارة “اللهيب البكوي” تشكل إبداعاً لغوياً فريداً يجمع بين النار (اللهيب) والدموع (البكوي)، مما يخلق صورة شعرية مركبة تجسد حالة الاحتراق العاطفي.
الجملة الاسمية المقطعة “هو إنت” تمثل ذروة التجربة الصوفية، حيث يتحد العاشق بالمعشوق في كينونة واحدة.
المستوى السادس: الختام والتسليم
“حبي عارفك
في شبابك في صباك
في جمالك في وفاك
يا المسير وماك مخير
انت ياصابر عند الله جزاك”
ينتهي النص بلحظة تسليم كاملة تتضمن الاعتراف بالمعرفة (“عارفك”) والتسليم بالقدر (“المسير وماك مخير”). التكرار في “في شبابك في صباك في جمالك في وفاك” يخلق إيقاعاً تصاعدياً يحصر كل صفات الجمال في المحبوب.
العبارة الختامية “عند الله جزاك” تحول العلاقة العاطفية إلى علاقة روحانية، حيث يصبح الجزاء من الله وليس من الذات الشاعرة، مما يضفي على التجربة بُعداً متعالياً.
” التحليل الأسلوبي والبلاغي”
أ) اللغة والمعجم الشعري
يستثمر النص ثراء اللهجة السودانية دون أن يفقد فصاحته، فكلمات مثل “البكوي” و”المسير وماك مخير” تحمل طاقة تعبيرية لا تتوفر في المعادل الفصيح. هذا الاختيار اللغوي يمنح النص أصالة وقرباً من الوجدان الشعبي دون إخلال بالمستوى الأدبي.
ب) الصور البلاغية والرمزية
يوظف النص مجموعة من الاستعارات المبتكرة:
– “طوعت الليالي”: استعارة مكنية تصور الليالي كحيوان جامح يحتاج للترويض
– “زللت المحال”: استعارة تشبه المستحيل بالجليد الذي يمكن إذابته
– “الأماني الدايرة”: استعارة مكانية تصور الرغبات كأجرام سماوية
– “جحيم نارك”: استعارة تشبه المحبوب بالنار المحرقة
ج) البناء الإيقاعي والموسيقى الداخلية
يتميز النص بإيقاعه الداخلي المتنوع الذي يتناوب بين الجمل القصيرة المقطعة والجمل الطويلة المتدفقة، مما يحاكي تموجات الحالة النفسية للشاعر بين التوتر والاسترخاء، بين الثورة والاستسلام.
” البُعد الفلسفي والمقاربة الوجودية”
إشكالية الحرية والحتمية
يطرح النص إشكالية فلسفية معقدة حول طبيعة الحرية الإنسانية في مواجهة الحتمية الكونية. الشاعر لا يقدم إجابات جاهزة بل يعرض التناقض في صورته الخام، مما يجعل النص مفتوحاً على تأويلات متعددة.
” الحب كقدر وكاختيار”
يقدم النص رؤية معقدة للحب تتجاوز الثنائيات التقليدية، فالحب هنا ليس اختياراً محضاً ولا قدراً مطلقاً، بل قوة وسيطة تشارك في صنع القدر وتخضع له في آن واحد.
” التسامي من خلال المعاناة”
يتبنى النص فلسفة التسامي من خلال المعاناة، حيث يصبح الألم طريقاً للمعرفة والعذاب مدخلاً للسعادة، وهي رؤية تتصل بالتراث الصوفي والوجودي معاً.
” الخلاصة النقدية”
تشكل “المستحيل” نموذجاً متقدماً في الكتابة الشعرية العربية المعاصرة من خلال: الإحكام البنائي : النص محكم البناء من الناحية التركيبية والدلالية
العمق الفلسفي : يطرح قضايا وجودية كبرى دون سقوط في التجريد
الأصالة اللغوية : يستثمر ثراء اللهجة المحلية دون فقدان الطابع الأدبي
التجديد الأسلوبي : يبتكر تقنيات تعبيرية جديدة في معالجة موضوع الحب
الشمولية الإنسانية : يتجاوز الخصوصية الفردية ليصل إلى القضايا الإنسانية العامة
النص في النهاية ليس مجرد أغنية حب بل منظومة فكرية وجمالية تستحق مكانتها في المدونة الشعرية العربية المعاصرة، وتؤكد على إمكانية الكتابة المحلية في الوصول إلى الأفق الإنساني العام.

زر الذهاب إلى الأعلى