
ان لم تخني الذاكرة ففي العام 2015 جاءنا في مدينة العين الاماراتية البروفيسور والمفكر عبد الله علي ابراهيم ..ولاننا توسمنا في الرجل إنه يمكن ان يلقي لنا الضوء على القضايا المعقدة في المشهد السوداني بمختلف جوانبها ..فقد قامت إدارة النادي السوداني في المدينة بدعوة الرجل لإلقاء محاضرة يفكك فيها برؤيته الثاقبة ما يتيح لنا كمغتربين ان نكون في الصورة ظنا منا انه سيقوم باعمال مشرطه الفكري والعلمي بتشريح مواضع الالم في جسد الوطن المجهد باوجاعه الممضة ..وقمنا على ضوء ذلك بحشد عدد مقدر من ابناء الجاليه الذين تدافعوا زرافات ووحدانا حتى لا تفوتهم فرصة التنوير من استاذ وسياسي عالم ببواطن الامور او كما افترضنا ذلك .
ولكن كان المفاجأة المذهلة والصادمة ان الرجل ظل يتحدث لقرابة الساعتين او نحو ذلك عن السحر في ادب الرباطاب .
وحيث كنت اجلس في المنصة إلى يسار البروفيسور فقد همست في إذنه بان الجماهير التي احتشدت لم تتوقع ان يهرب استاذ بقامته الى الامام عن اهم القضايا التي تشغل بال الناس وينصرف إلى مواضيع جانبية مع احترامنا لاهلنا الرباطاب وثقافتهم .
فنظر لي من طرف نظارته السميكة وهمس في اذني بقوله يا ود برقاوي ..كله من سحر البيان .
تلك كانت واحدة ..
والثانية حينما عدت إلى الوطن في العام 2017 ..وفي إحدى الامسيات اتصل بي صديقي البروفيسور والشاعر كامل عبد الماجد يدعوني لمرافقته إلى مركز الفيصل بحي الرياض لحضور محاضرة سيلقيها البروفيسور عبد الله علي ابراهيم .
وتشاء الاقدار حينما جاءني كامل لأرفاقه في سيارته ان اعلن في تلك اللحظة نباء وفاة الشيخ حسن عبد الله الترابي وبما ان مسكني كان قريبا من المستشفى الذي خرج منه جثمان الفقيد فقد كانت سيارات الإسعاف تتدافع في الشوارع والجماهير تلهث وراءها للوصول إلى منزل الشيخ الذي لايبعد كثيرا عن المستشفى .
قلت لكامل لا اعتقد ان المحاضرة يمكن ان تقوم في مثل هذه الاجواء لما للدكتور الترابي من مكانة سياسية واجتماعية اختلف الناس معه او اتفقوا ففي مثل هذه المواقف العاطفية يتناسى الناس خلافاتهم بتلك الروح السودانية الإصيلة .
قال لي كامل ..اراهنك ان المحاضرة قائمة وسترى بام عينك..وبالفعل دلفنا إلى القاعة الفسيحة التي تناثر فيها نفر قليل من الحضور ومن ثم بدا الرجل الحديث..وكان عنوان المحاضرة ..هو السحر في ثقافة الرباطاب .
وعلى مدى ساعة واكثر وخلال تلك المحاضرة المملة لم يتوقف الرجل عند الحدث الذي شغل الفضائيات ووكالات الانباء وهو رحيل رجل بقامة الشيخ حسن الترابي ..لم ينعه بكلمه بل ولم يشر اصلا إلى الحدث من قريب او بعيد وكانه لم يسمع به اساسا .
المناسبتان ..وبذلك الترابط من الهروب عن ما يشغل الناس في الساحة دليل على ان البروفيسور عبد الله علي ابراهيم قد اصبح يغرد بعيدا عن رهط العلماء والمفكرين المهمومين بقضايا الوطن ..ولعل موقفه المتشدد حيال عدم تاييده لإيقاف هذه الحرب اللعينة وهو بعيد عن الاكتواء بنارها ودعوته المتكررة بحسم المعركة عبر القتال ومعارضيه لاي بادرة للحلول السلمية وهو من المفترض فيه ان يكون رسول محبه وحمامة سلام ..ولكنه ظل ينظر لحمامات الدماء وشواء الاشلاء بتلذذ في هذا الوطن المنكوب من مهجره بامريكا تماما كما ينظر دونالد ترامب لمحرقة البشر ودمار الحجر في غزة ويقول لنتنياهو هل من مزيد .
فالبروف عبدالله شبه حربنا هذه برقصة التانغو وحسب معلوماتي الضئيلة حول تلك الرقصة فهي عناق بين حبيبن متى ما فرغا من رقصتهما ذهبا إلى اقرب حانة لإكمال السهرة ومن ثم سيذهبان إلى مكان النوم والباقي تمو من خيالك.
فما الذي حدا بالبروف إلى ذلك التشبيه الرومانسي وما يحدث في ساحة الوطيس الدائر بشراسة وكانه احتراق وتمزق الظهور بسياط عبث البطان الذي يؤذي الشباب فقط باستعراض مقدرتهم على تحمل الوجع وهو ادعاء كاذب قياسا إلى مقدرة الجسد على مقابلة ذلك الالم الدامي.
الم يخطر كل ذلك ببال
البروف الامريكي الذي حبز ذلك التشبيه المارق وكانه يكرر الهروب الى الامام كالعادة والشواهد ما ذكرناه في الحالتين اعلاه ..وهي ذروة حالة الفصام التى تصيب الصفوة عندنا في مرحلة ما.. عافاهم الله وسامحهم .
وهو من وراء القصد .