رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

مدني بعد التحرير: مدينة بلا حكم ولا امان حقيقي فمن المسؤول عن استمرار الفوضى…؟

✍🏻 المستشار/مهيد شبارقة.
لم يكن تحرير مدينة ود مدني بلد الجمال والفن منارة التعليم وايقونة الثوارات وعاصمة ولاية الجزيرة من قبضة مليشيا الجنجويد سوى بداية لفصل آخر من المعاناة والنهب في ظل انعدام كافة الخدمات الضرورية..!! فبينما استبشر المواطنون خيرا بعودة المدينة إلى سلطة الجيش ظنًا أن الأمن والاستقرار سيعودان تدريجيا تفاجأوا بفوضى لم تتوقف ونهب وسلب طال حتى دور المؤسسات الرسمية دون رادع أو مسؤول يحاسب…!!
أولاً: ود مدني قبل تحرير ها جرح الاحتلال الميليشي:عاشت المدينة شهور مريرة تحت سيطرة المليشيا بقيادة/ابوعاقلة كيكل اتسمت بجرائم منظمة من اعتقالات تعسفية وانتهاكات بحق المدنيين إلى نهب واسع النطاق للمحال التجارية والمنازل فكانت السيطرة على مدني ضربة قاسية لرمزية الجزيرة كمركز زراعي واقتصادي وثقافي…!!!
ثانيًا: التحرير العسكري دون خطة أمنية اومواجهة أمرا دعى للشك..!!
ففي ديسمبر الماضي أعلنت القوات المسلحة السودانية دخولها ودمدني واستعادتها من قبضة المليشيا دون مقاومة اوخسائر كبيرة إلا أن التحرير يبدو انه تم دون وجود خطة أمنية واضحة ولا إعادة هيكلة للشرطة المحلية أو حتى إعلان لحالة الطوارئ ماجعل المدينة مكشوفة أمام اللصوص وفلول المليشيات حتى يومنا هذا…!!
ثالثا:الأمن المفقود.. ومن يملأ الفراغ..؟
أبرز ما يعيشه المواطن في مدني اليوم هو غياب السلطة الحقيقية:
حيث لا وجود منظم للشرطة والامن ولازالت كثير وجوه المليشيات المغتصبة سابقا هي المسيطرة على المشهد حاليا فقوات الجيش تتمركز في نقاط عسكرية هنا وهناك لكن لا تتدخل في الجرائم اليومية التي مل الناس منها وأهمها النهب والسلب مساء والشفشفشة المستمرة بالأحياء…!!
فلسرقات تحدث علنا في وضح النهار في ظل ارتداء بزة الجيش بلا حسيب اورقيب…!!فانتشرت مجموعات مسلحة تقتحم المنازل والأسواق…!!
#فمن المسؤول عن هذا الانفلات؟
#هل الجيش الذي استرد المدينة دون استكمال أدوات الحكم المدني…؟
أم ان حكومة الولاية التي لم تعد إلى مقارها..؟
#أم أن الدولة السودانية لم تعد تملك القدرة على إدارة المدن بعد تحريرها من المليشيات..؟
رابعًا: من يتحكم في ود مدني الآن…؟ تساؤلات الناس وغياب الدولة..!!!
فلا تزال المدينة بدون والٍ فعلي أو محليات فاعلة حتى المؤسسات العدلية لا تعمل بشكل رسمي فلا توجد نيابات ولا محاكم ولا شرطة جنائية رسمية بل اعادوا لهم على مأساتهم ذات الوالي الذي فر هاربا تاركا مواطنيه لبطش المليشيا فاعاد نفس طاقمه الصوري من وكلاء كيزان الصف الثاني ليملاؤ الفراغ..!!
فالمواطنون يلجأون أحيانا للعرف أو الأجاويد لحل النزاعات مما يعيدنا إلى سؤال جوهري: #ما جدوى تحرير المدينة إن لم تعد الدولة إليها…؟
خامسًا: شهادات من الداخل – اعترافات المواطنين والناشطين /أحمد تاجر بسوق ود مدني يقول:
(الدعم السريع نهبونا أول وبعد ما طلعوا بقينا بنتهب كل يوم من ناس تانين نعرفهم كانو يحاربون سابقا مع المليشيا وغيرو لبسهم وما في شرطة وما في زول بيرجع ليك حقك..!!)
#سارة معلمة في حي الدرجة تقول:
(نحن كنا متفائلين لما الجيش دخل مدني لكن الآن المدينة بلا وجيع فالحرامي داير ينهبك والجيش يقول دا ما شغلنا..!!!)
سادسًا: الجيش والقوات النظامية هل خرجوا من مهمتهم فعلا..؟
تحركات الجيش في مدني تقتصر على نقاط محددة في المدينة وقراها ولا يظهر أي نشاط متعلق بإعادة الأمن أو تطبيع الحياة فلا تزال كثير من المرافق خارج الخدمة والمواطنون لا يشعرون أن هناك سلطة تدير شؤونهم.!! فبعض الجنود أنفسهم اشتكوا من انعدام الإمكانات وعدم وجود تنسيق مع الأجهزة المدنية.!!
سابعًا: انهيار دولة المؤسسات.. والفراغ الذي يملؤه تمكين المجهول:
فحالة ود مدني نموذج مصغر لما يحدث في السودان عامة بعد اكثر من عامين من الحرب: وتحرير المدن لا يعني عودتها لما قبل بل مجرد انتقال من احتلال ميليشياوي إلى فراغ أمني قاتل ومخاوف الناس اليوم ليست فقط من عودة الدعم السريع بل من فراغ وغياب الدولة نفسها..!!
وفي شهادات من محليين وضباط جيش سابقين وقانونيين حول معنى (تحرير مدينة في ظل غياب مؤسسات الدولة)
في محاولة لفهم ما جرى وما لم يجرِ بعد تحرير مدينة ود مدني من قبضة المليشيا توجهنا كلهم أجمعوا على نقطة جوهرية: ان (ما حدث لم يكن تحريرا حقيقيًا بل إزاحة لقوة مسيطرة دون بديل مؤسسي:
١/اللواء (م) ع ف .ضابط سابق بالقوات المسلحة السودانية:
(التحرير في المعنى العسكري يعني إزالة العدو وتمكين الدولة وليس مجرد إخلاء المدينة من المليشيا فالجيش برغم خطأه الكارثي اولا أدى واجبه القتالي لكنه لم يكن لديه تفويض بإدارة الشأن المدني ولا توجد قيادة موحدة تنسق بين الجيش والشرطة والإدارة المدنية فالنتيجة؟ مزيد فوضى وارتباك)
ويضيف:
(ود مدني حررت بلا خطةبل شغل تسليم وتسلم دون مقاومة مرئية وهذا عيب استراتيجي فالمطلوب الآن قوات مشتركة وإعادة بناء الثقة بين الأجهزة النظامية والمواطنين.)
٢/د. م.م/ أستاذة قانون الدستوري بجامعة الجزيرة تفيد:
(من منظور قانوني لا يمكن اعتبار المدينة محررة طالما أن مؤسسات الدولة مثل /النيابة العامة الشرطة /المحاكم و/حتى السجلات المدنية غير موجودة فما يحدث الآن هو فراغ قانوني كامل وعامة الناس بلا حماية ولاتوجد مساءلة وهذه ليست دولة بل هي حالة من العطالة القانونية)
وتُحذر من أن: (استمرار هذا الوضع يقوض فكرة سيادة القانون ويمنح شرعية ضمنية لأي قوة مسلحة تملأ الفراغ).
٣/ع. ا. سياسي مستقل وعضو لجنة مقاومة سابق بود مدني يقول:
(الناس فرحوا بالتحرير لكن خاب أملهم خلال أيام فلم نرى أي جهد لإعادة الحياة المؤسسية ولا زال المواطنون يطاردون سراب الدولة فلاحكومة لا محليات ولاجهة مسؤولة عن الخدمات أو الأمن فقط اتتشار عربات الجيش في الطرقات دون اي تفاعل مع الأزمات اليومية)
#ويضيف بحسرة:
(كأن التحرير كان فقط للاستهلاك الإعلامي..!!)
٤/د. ا.ي محلل سياسي متخصص في النزاعات الانتقالية يفيد بان:
(ما جرى في ود مدني يظهر أن الحرب العبثية الحالية أكبر من مجرد مواجهة عسكرية بين طرفين مسلحين فالصراع هو صراع على مفهوم الدولة نفسه قبل السيطرة على السلطة فالمليشيا مثّلت انحرافا لكن غيابها لا يعني عودة الشرعية للطرف الاخر فلو لم تعد هياكل الدولة المدنية بقوة فإن المدن السودانية ستظل مجرد مساحات مفتوحة تتحكم فيها مجموعات تحمل السلاح بلا مرجعية)
ويحذر من أن :
(عودة مدني إلى اللا دولةبعد التحرير تهدد أيضا باقي المدن التي ستحرر مستقبلًا):
(فالدولة لا تبنى بالبيان العسكري بل بالمؤسسات المدنية الفاعلة وهذا مانفتقده….)
عاشرًا: دلالات شهاداتهم ان تحرير المدن لا يكفي فمن خلال هذه الشهادات يتضح أن (مفهوم التحرير يحتاج إلى إعادة تعريف داخل العقل العسكري والسياسي السوداني.
#فهل تحرير المدينة يعني طرد العدو فحسب…؟
#أم أنه يشمل إعادة الدولة كمفهوم وسلطة ومؤسسات..؟
#من يحاسب حين تتحول المدن المحررة لساحات نهب وفوضى..؟
كل هذه الأسئلة تؤكد أن المعركة الحقيقية ليست فقط سيطرة عسكرية بل مؤسسية في المقام الأول.
احدى عشر: التوصيات بناء على تحليل الوضع الراهن واستنادًا على هذه الشهادات فإن إدارة مرحلة ما بعد التحرير تتطلب:
١/تكليف إدارات مدنية فاعلة مؤقتا تحت إشراف ومتابعة قادة الجيش مباشرة وليس اعضاء الصف الثالث من تنظيم الحركة الاسلامية.
٢/إعادة نشر الشرطة الجنائية والمرورية وتفعيل عمل النيابة.
٣/تشكيل لجان شعبية رقابية مدعومة من المجتمع المدني.
٤/دمج عناصر محلية من الشرطة والمجتمع لتسهيل استعادة الثقة المفقودة.
٥/تقديم تقارير دورية من الجيش والشرطة عن الوضع الأمني والمدني.
#ثاني عشر: مدني بعد التحرير.. بين الأمل والخوف:
فمدني لا تزال تترنح تحت وطأة (تحرير بلا دولة) فبين غياب المؤسسات وتردي السلطة وتمدد الفوضى يعيش المواطنون في واقع هجين لا هو بالحرب ولا هو بالسلم ولقد آن الأوان لطرح السؤال الجوهري بوضوح:
#هل هم يحررون المدن فعليا لاعادة الامن أم مهمتم تكمن في ان يخلوها من المليشيات فقط ليسلموها للفوضى؟
وما لم تتم الإجابة على هذا السؤال من قبل السلطة الحاكمة فإن كل تحرير سيكون مجرد وهم
#سؤال اخير هل من أمل في الإصلاح..؟ #وماذا يجب فعله..؟
فالحل يبدأ من الاعتراف بالفشل في إدارة مرحلة ما بعد التحرير فالمطلوب فورًا:
١/تشكيل سلطة مدنية محلية مؤقتة يتراضي عليها اهل الولاية لتسيير شؤون المدينة.
٢/إعادة الشرطة والنيابات بدعم من القوات المسلحة مباشرة.
٣/نشر خطة أمنية واضحة تطال الأسواق والأحياء السكنية.
٤/إشراك المجتمعات المحلية في جهود الحماية المجتمعية.
#خاتمة:
مدينة تنتظر من يحكمها فعليا لاصورياود مدني المحررة اليوم، تُنهب تحت أنظار السلطة ويموت فيها القانون ألف مرة فالحرب في السودان لم تترك فقط جراحا في الخرائط بل مزقت حتى مفهوم الدولة وما لم يستدرك الوضع في الجزيرة عامة فإن تحرير المدن لن يكون سوى تسليمها للفوضى مرة أخرى ولكن باسم مختلف.

زر الذهاب إلى الأعلى