رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

درة تبكي في صمت: “مرضان باكي فاقد” والعشق الذي أحيا الحقيبة السودانية”

بقلم: معاوية أبوالريش
في رحاب الأدب والشعر السوداني، حيث تتراقص الكلمات على أنغام الوجدان، تقف قصيدة “مرضان باكي فاقد” للشاعر الخالد محمد علي عثمان بدري كنجمة ساطعة في سماء الشعر السوداني ، وكدرة نادرة في تاج الحقيبة الفنية السودانية. هذه الحقيبة التي حملت في طياتها أعذب ما نظمته القرائح وأجمل ما لحنته الأصوات، والتي نالت اسمها من حرص إعلامي كبير على حماية كنوزها الفنية بحملها في حقيبة يصطحبها أينما ذهب، خوفاً من ضياع هذا التراث الثمين.
لكن “مرضان باكي فاقد” ليست مجرد قصيدة في هذا الكنز الأدبي، بل هي حكاية عشق حقيقية نبضت بين جدران أحد بيوت أحياء أمدرمان العتيقة، وترجمها الساحر عمر البنا إلى سيمفونية خالدة لا تزال تتردد في القلوب حتى اليوم.
” حكاية العشق التي أحيت الشعر”
تأخذنا هذه القصيدة إلى حي العرب في أمدرمان، حيث امتلك الشاعر محمد علي عثمان بدري داراً يعتاش من إيجارها. وفي يوم من الأيام، استأجرت هذه الدار أسرة قبطية وافدة من مصر، وبين أفراد هذه الأسرة كانت فتاة حسناء أسرت قلب الشاعر وسلبت لبه. كانت الدار تضم حديقة واسعة، فوجد الشاعر في العناية بها والإشراف على تنسيقها ذريعة للزيارات المتكررة، بينما كان هدفه الحقيقي هو لقاء محبوبته التي ملكت عليه كل حواسه.
لكن الأقدار شاءت أن يسافر الشاعر في رحلة طويلة عبر ولايات السودان امتدت لشهور، وعندما عاد متشوقاً لرؤية من أحب، وجد الدار خالية قد هجرتها الأسرة القبطية تاركة وراءها صدى ذكريات وعطر أحلام ذابلة. من رحم هذا الألم العميق والفراق المؤلم، انبثقت هذه القصيدة الخالدة لتحكي قصة عشق تتجاوز حدود الزمان والمكان.
” رحلة في قلب الألم: تحليل النص شعرياً” صرخة البداية ونداء الشفاء
“مرضان باكي فاقد فيكى علاج طبيبي” بهذه الكلمات المختصرة الموجزة، يفتح الشاعر قلبه على مصراعيه، فهو ليس مجرد مريض بل “مرضان” تأكيد على شدة المرض وعمقه. وهو ليس مجرد حزين بل “باكي” في حالة بكاء مستمرة،و”فاقد” قد فقد أغلى ما يملك. وفي هذا التدرج البلاغي الرائع، يضع الشاعر القارئ في قلب المأساة مباشرة، ثم يقدم الحل الوحيد: محبوبته التي فيها وحدها يجد الدواء والشفاء.
“الحوار الدرامي مع شاهد الحب”
“قالوا ترك سكونك يادار وين حبيبك.. يادار من بقاياك فوحي وجيبي طيبي”
ينتقل الشاعر من الألم الشخصي إلى المشهد العام، حيث يحكي كيف يسأل الناس الدار عن سبب هجرها وسكونها، وأين ذهبت ساكنتها الجميلة. ثم يتحول الشاعر نفسه إلى مناجاة الدار بحنان وألم، طالباً منها أن تفوح بعطر من رحلت، أو أن تجلب له من عبق النرجس الذي كان يزين حديقتها. هنا تبرز عبقرية الشاعر في تحويل الدار من مجرد مكان إلى شاهد حي على قصة الحب، بل إلى شريك في الحوار والمأساة.
” صمت أبلغ من الكلام”
“ماردت سؤالي وأجابت دار حبيبي.. سدت حلقي عبره نفسي متين تطيبي”
في هذا المقطع، يصل الشاعر إلى قمة البلاغة حين يجعل صمت الدار إجابة أبلغ من أي كلام. فالدار لم ترد على سؤاله، لكن صمتها كان إجابة دامغة سدت حلقه بالعبرة والدموع. هذا الاستخدام الفني للصمت كوسيلة تعبيرية يعكس عمق الفهم الشعري والقدرة على توظيف اللامنطوق في خدمة المعنى.
” شوق الغائب وحنين القلب”
“أنا لي مدة طالت ما شاهدت قمري.. ما شاهدت غصن اليانع فيه ثمري”
يعبر الشاعر عن طول فترة الغياب والانتظار، مستخدماً تشبيهات من الطبيعة تعكس ارتباطه العميق بالبيئة السودانية. فمحبوبته “قمر” في جماله ونوره، و”غصن يانع” في نضارته وحيويته، و”ثمر” في عطائه وحلاوته. هذا التنوع في التشبيهات يرسم صورة متكاملة للجمال المفقود ويعمق من الإحساس بالحرمان.
” سكر النظرات وخمر العيون”
“أنا ماشفت محبوبى البفيداه عمري.. اسكر من عيونه هي كأسات فيها خمري” في هذا المقطع الساحر، يرسم الشاعر صورة شاعرية بديعة للتأثير السحري لنظرات المحبوبة. فعيونها ليست مجرد عيون، بل كؤوس خمر تسكره وتذهب بعقله. هذا التشبيه المبدع يحمل دلالات عميقة عن قوة الجمال وتأثيره الساحر على النفس البشرية، ويعكس فهماً عميقاً لسيكولوجية العشق والانجذاب.
” اعتراف بالهزيمة أمام الحب”
“حبي الغير خافي يا الانت بتخبرى.. اسألي منه قلبك ومن نيراني تبرى”
يقر الشاعر بأن حبه ظاهر لا يمكن إخفاؤه، في تحدٍ عاطفي رقيق يعكس ثقته في صدق مشاعره. ثم يطلب من محبوبته أن تسأل قلبها عن حبه، وأن تحاول البراءة من نيران عشقه إن استطاعت. هنا يظهر التحدي الحقيقي للحب: هل يمكن للقلب أن يكذب على نفسه أم أن الحب الصادق يفرض نفسه بقوة لا تقاوم؟
” رحلة البحث عن الأخبار”
“مروا على ناسك….وليك شالوه خبري.. هل عرفوني حائر وهل ادوك خبرى”
يصور الشاعر نفسه في حالة من البحث المحموم عن أخبار المحبوبة، متسائلاً عن كل من مر بأهلها، وهل أوصلوا إليها أخباره وعرفوا حيرته. هذا المشهد الإنساني العميق يعكس حالة القلق والترقب التي تسيطر على العاشق، ويجسد الحاجة الماسة للتواصل والاطمئنان على المحبوب.
” استسلام الكبرياء للعشق”
“كيف طغى لي حبك دائي متين تزولي.. لولاك ما نزلت عن مقدار نزولي” في هذا الاعتراف الصادق، يقر الشاعر بأن حبها قد غلبه وطغى عليه كالداء المستعصي، وأنه لولا هذا الحب ما تنازل عن كبريائه ومكانته. هنا نرى الصراع الحقيقي بين الكبرياء والحب، وكيف ينتصر الحب في النهاية مجبراً صاحبه على التنازل عن كل شيء من أجل المحبوب.
: شاعرية الوصف وجمال التشبيه”
“فاكهه جميلة يانعه شتاها طاف بدري.. دره يتيمة انسه ظبيه حواها خدري” ينتقل الشاعر إلى رسم لوحة فنية متكاملة لجمال المحبوبة، مستخدماً تشبيهات متنوعة ومتتالية: فهي الفاكهة الجميلة اليانعة، والدرة اليتيمة النادرة، والأنسة الظبية الجميلة المحتجبة في خدرها. هذا التنوع في التشبيهات يعكس ثراء الخيال الشعري وقدرة الشاعر على استحضار الجمال من مصادر متعددة ودمجها في صورة موحدة ومتكاملة.
” عذاب الليالي وألم الانتظار”
“حوره فى نعيمه طواها جبينها بدرى.. انا فى ناره ساهر باكي أريتها تدرى”
يرسم الشاعر تبايناً مؤثراً بين حال المحبوبة وحاله، فهي كالحورية في نعيمها وراحتها، بينما هو في نار العذاب ساهر باكٍ، متمنياً لو تعلم بحاله. هذا التباين يعمق من الإحساس بالظلم العاطفي ويجسد معاناة العاشق الحقيقية.
” التوسل والاستعطاف”
“لو كلمتي طيفك قلت يزور ضريحي.. أو قلتيلو داوى علل عاشقي وجريحي”
يصل التذلل العاطفي إلى ذروته حين يتوسل الشاعر إلى محبوبته أن تأمر حتى طيفها بزيارته وهو في حالة تشبه الموت، أو أن تطلب من هذا الطيف مداواة جراحه العاطفية. هذا الاستعطاف الشديد يعكس عمق الألم ودرجة اليأس التي وصل إليها الشاعر.
” تضحية الحب الحقيقي”
“لا باس من عذابي وبكاء جفني القريحى.. ما دام انت نائمه وهادئه وتستريحي” في هذا المقطع النبيل، يعلن الشاعر استعداده لتحمل كل العذاب والألم طالما أن محبوبته في راحة وسكينة. هذا الموقف الراقي يعكس سمو المشاعر ونبل الحب الذي يضع راحة المحبوب فوق كل الاعتبارات الشخصية.
” الدمع الذي يفضح السر”
“أنا غافل غرامك دون اعلم شحني.. دمعي إذا طريتك بين الناس فضحنى”
يصور الشاعر كيف أن الحب قد شحنه بالمشاعر دون أن يدري، وكيف أن دمعه يفضحه أمام الناس كلما ذكر اسم محبوبته. هذا التشخيص الرائع للدمع يجعله شخصية فاعلة في القصيدة، وليس مجرد تعبير عن الحزن.
” امتحان الحب الأكبر”
“أنا شاعر فؤادك في الحب امتحنى.. برضك جافيه نافره لي متين تحنى”
يختتم الشاعر قصيدته بإعلان أنه شاعر فؤاد محبوبته، وأن الحب قد امتحنه واختبر صبره وثباته. رغم جفائها ونفورها، يبقى صابراً منتظراً لحظة الحنان والرضا. هذا الختام يعكس عمق الإيمان بالحب وقدرته على تحمل كل الصعاب.
” الجماليات الفنية: عبقرية في التعبير”
البناء الدرامي المحكم: تتميز القصيدة ببناء درامي متقن يأخذ القارئ في رحلة عاطفية متكاملة، تبدأ بالألم والفقدان، وتنتقل عبر مراحل الذكرى والحنين والبحث والتوسل، لتنتهي بالاستسلام والقبول. هذا البناء المتدرج يخلق حالة من التماهي بين القارئ والشاعر، ويجعل التجربة الشعرية تجربة إنسانية شاملة.
” التشخيص والحوار الدرامي”
استخدم الشاعر تقنية التشخيص بمهارة استثنائية، فحوَّل الدار إلى شخصية محورية في القصيدة، وجعل الدمع يفضح السر، والصمت يتكلم. هذا التوظيف الفني للتشخيص يضفي حيوية على النص ويجعله أكثر قرباً من النفس.
” الصور الطبيعية والتشبيهات البيئية”
اعتمد الشاعر على مفردات الطبيعة السودانية في رسم صوره الشعرية، من القمر والغصن والثمر والنرجس إلى الفاكهة والدرة والظبية. هذا الاستلهام من البيئة المحلية يجعل القصيدة تنبض بروح المكان وتعكس أصالة التجربة الشعرية السودانية.
” الموسيقى الداخلية والإيقاع”
تتميز القصيدة بموسيقى داخلية عذبة تنبع من تناغم الأصوات وانسجام الكلمات، مما جعلها مادة خصبة للتلحين والغناء. هذا الإيقاع الموسيقي يعكس فهماً عميقاً لطبيعة الشعر الغنائي وقدرة الشاعر على التوليف بين المعنى والموسيقى.
” البساطة والعمق المتوازنان”
رغم بساطة المفردات وسهولة التركيب، تحمل القصيدة عمقاً فلسفياً وعاطفياً يجعلها تصل إلى طبقات مختلفة من القراء. هذا التوازن بين البساطة والعمق يعكس نضج الشاعر وقدرته على التعبير عن التجارب المعقدة بوضوح وشفافية.
” خلود في كلمات”
عندما نقف أمام “مرضان باكي فاقد”، لا نقف أمام مجرد قصيدة، بل أمام شاهد حي على قدرة الكلمة على تحويل الألم الشخصي إلى تراث إنساني خالد. فهذه القصيدة، التي ولدت من رحم تجربة عاطفية صادقة، استطاعت أن تتجاوز حدود الزمان والمكان لتصبح ملكاً لكل عاشق ومحب.
إن عبقرية محمد علي عثمان بدري تكمن في قدرته على تحويل الخاص إلى عام، والشخصي إلى إنساني، والمحلي إلى عالمي. وعندما التقت كلماته بألحان عمر البنا الساحرة، ولدت تحفة فنية لا تزال تهز القلوب وتحرك المشاعر بعد عقود من إبداعها.
وتبقى هذه القصيدة شاهداً على أن الحقيبة السودانية لم تكن مجرد مجموعة من الأغاني، بل كانت مدرسة فنية متكاملة جمعت بين عمق الشعر وجمال اللحن وصدق التعبير. وأن حرص ذلك الإعلامي على حفظ هذا التراث في حقيبته كان بمثابة إنقاذ لكنز ثقافي لا يقدر بثمن.
في النهاية تظل “مرضان باكي فاقد” درة تبكي في صمت، تحكي قصة عشق خالدة وتجربة إنسانية عميقة، وتؤكد أن الشعر الصادق النابع من القلب قادر على أن يحول الألم إلى جمال والفراق إلى خلود.

زر الذهاب إلى الأعلى