
بقلم : معاوية أبوالريش
في عالم الشعر والغناء السوداني، تبرز بعض الأعمال كمحطات وجدانية تلامس أعماق النفس البشرية بصدق وعمق. ومن هذه الأعمال الاستثنائية أغنية “بتذكرك” التي كتبها الشاعر محمد نجيب محمد علي، وأدّاها بصوته الآسر الفنان الراحل أحمد شاويش. هذا العمل لا يُعد مجرد أغنية، بل هو رحلة شعرية عميقة في تجربة الغربة والحنين، ووثيقة إنسانية تصوّر معاناة الإنسان المغترب وشوقه لوطنه وأحبائه.
” البنية الشعرية والإيقاع الداخلي”
تبدأ القصيدة بمدخل فلسفي عميق: “عندما يصبح الكلام صعباً.. وتتعثر الحروف ألماً ووجداً”، وهذا المدخل يكشف عن حالة نفسية معقدة يعيشها الشاعر. فالكلام الذي هو أداة التعبير الأساسية للشاعر، يصبح عاجزاً عن نقل مشاعره، والحروف تتعثر تحت وطأة الألم والوجد. هذا التصوير البلاغي يضعنا مباشرة في قلب التجربة الشعرية، حيث يصبح الصمت أبلغ من الكلام.
الإيقاع في القصيدة يتناوب بين البطء التأملي والتدفق العاطفي، مما يخلق نسيجاً موسيقياً داخلياً يتماشى مع المضمون الشعري. استخدام النقاط والفواصل يخلق فترات توقف تشبه أنفاس المغترب المتقطعة، بينما التكرار في عبارات مثل “بتذكرك” و”وقت النجم يتلالا” يعمق الإحساس بالدورية والاستمرارية في المعاناة.
“صورة الغربة والاغتراب”
يرسم الشاعر صورة بانورامية للغربة من خلال تعبيرات مكثفة المعنى. عبارة “وأنا في المدائن الضايعة ضايع لي زمن” تكشف عن نوعين من الضياع: ضياع مكاني في مدن غريبة، وضياع زماني حيث يشعر المغترب أن وقته يمضي دون قيمة أو معنى. هذا التضاعف في الضياع يعمق الإحساس بالفقدان والتيه.
الغربة في النص لا تقتصر على البُعد الجغرافي، بل تمتد لتشمل الغربة النفسية والوجدانية. الشاعر “غريب عيون سرحان على الأرض الغريبة”، وهذا التعبير يصور حالة الانفصال النفسي حتى وسط الناس، فالعيون السارحة تدل على عدم الحضور الروحي رغم الحضور الجسدي.
” رمزية الليل والنجوم”
يحتل الليل مكانة مركزية في النص، فهو الوقت الذي يشتد فيه الحنين ويصبح فيه التذكر أكثر حدة. “والليل يودر في النعاس” تعبير محلي عميق يصور الليل وهو يهمس بالنعاس، لكن هذا النعاس لا يأتي للمغترب الذي يظل يقظاً مع ذكرياته.
النجوم في النص تحمل دلالات متعددة، فهي “تتلألأ زي عقد بيضوي عليه ماس”، وهذا التشبيه الجميل يحول السماء إلى قلادة من الماس، مما يضفي جمالاً على الليل المؤلم. النجوم هنا ليست مجرد أجرام سماوية، بل شهود على معاناة الشاعر ورفاق وحدته في الليالي الطويلة.
” البحث عن الهوية والانتماء”
“وبسأل الشوق عن وطن” جملة تلخص جوهر التجربة كلها. الشوق هنا يصبح كائناً يمكن استجوابه، والسؤال عن الوطن ليس مجرد سؤال جغرافي، بل بحث عن الهوية والانتماء. الشاعر يسأل الناس عن شوارع مر بها، وعن كلام قاله وأغاني غناها، وهذا البحث في الذاكرة يكشف عن رغبة في إعادة تجميع الذات المشتتة.
السؤال عن “عيونك وكيف بتصبح فيها أحلام الأماني” ينقل النص من العام إلى الخاص، من الوطن الجماعي إلى الحبيب الفردي. هذا التداخل بين حب الوطن والحب الشخصي يعكس الطبيعة المركبة للحنين الإنساني.
” اللغة والأسلوب”
يتميز النص بثراء لغوي يجمع بين العربية الفصحى والتعبيرات المحلية السودانية. كلمات مثل “يودر” و”بيضوي” تضفي نكهة محلية أصيلة، بينما التراكيب الشعرية مثل “تتعثر الحروف ألماً ووجداً” تحمل طابعاً فصيحاً راقياً. هذا المزج اللغوي يخلق نسيجاً لغوياً غنياً يعكس الهوية الثقافية المركبة للشاعر.
الاستعارات في النص متنوعة ومبتكرة، من “المدائن الضايعة” إلى “النجم يتلألأ زي عقد”، وهذه الاستعارات لا تقتصر على الزينة البلاغية، بل تحمل أبعاداً دلالية تعمق المعنى وتثري التجربة الشعرية.
” البعد الموسيقي والأداء”
لا يمكن الحديث عن هذا النص دون الإشارة إلى الأداء الاستثنائي للفنان الراحل أحمد شاويش. صوته الدافئ والمعبر أضاف أبعاداً جديدة للنص، وجعله يتحول من كلمات مكتوبة إلى تجربة وجدانية حية. طريقة أدائه للعبارات المحورية مثل “بتذكرك” كانت تحمل كل ثقل الحنين والألم المكنون في النص.
اللحن الذي وضعه أحمد شاويش للقصيدة يتماشى مع الحالة النفسية للنص، بدءاً من المقدمة الهادئة التي تشبه همس الذكريات، وصولاً إلى الذروة العاطفية التي تنفجر مع عبارات الشوق والحنين.
” الخلاصة والأثر الفني”
أغنية “بتذكرك” تمثل نموذجاً راقياً للشعر الغنائي السوداني، وتقدم تصويراً صادقاً وعميقاً لتجربة الغربة والحنين. النص ينجح في تحويل التجربة الشخصية إلى تجربة إنسانية عامة، فكل من سمع هذه الأغنية يجد فيها شيئاً من تجربته الخاصة مع الفراق والشوق.
العمل في مجمله يقدم درساً في كيفية التعامل مع المشاعر الإنسانية المعقدة شعرياً وموسيقياً، ويظل شاهداً على قدرة الفن الأصيل على تخليد اللحظات الإنسانية وجعلها خالدة في الذاكرة الجماعية. رحم الله الفنان أحمد شاويش الذي أعطى هذه الكلمات حياة ثانية، وجعلها تصل إلى قلوب الملايين عبر صوته الخالد.