الأعمدة

السّـودانُ بلد تذبحَـهُ الخُـطـطُ السّـوداء : السفير جمال محمد ابراهيم

(1) يقول الســودانيون بلهجتهم العامية حين يتضايقون من أمرٍ من الأمور ، بأنهم وضـعوا له “الخطة السـودا”، وفي الفهم الشعبي، أنّ ذلك يعني الكيد وإضمار منافرة ما بعــدها اجتــماع. وربما يقع ذلـك بسببٍ موضوعي معلومٍ، أو بسبب ذاتي يغلب عليه شيئٌ من الحسـد .
في مقابلة أجرتها قـناة إعلامية عربية شــهيرة مع رئيــس الوزراء الأســبق والوزيــر والسّـفير العـراقي الرّاحل “عـدنان الباجه جي” ، حول السياسة العربية خلال حقبة الستينات من القرن الماضي ، سأله مُقدّم البرنامج عمن من السفراء العرب الذين كان لهـم دورٌ وبصمة في منظـمة الأمم المتحــدة، فـلـم يتردّد الباجه جي وذكر له على الفور إسـم الســفير المندوب الدائم السوداني عـمر عـديل .
لربّما لا تحفظ الذاكرة العربية ولا الذاكرة الأفريقية، إسم السفير السّوداني عمر عـديل، ولربّما لا يتذكّره السـودانيون أنفسهم، فقـد كان مندوباً دائماً للسودان في المنظمة الأممية بين الأعوام من 1958م إلى 1964م . تلـك ســنوات عاصفة في تاريخ هـيـئة الأمــم المتحـدة ، شـــهدتْ حـراكاً من قِبل السـفراء الأفارقـة في التصدّى لمناهضـة الاستعمار في أنحاء العالــم وفي القـارة الأفريقـية على وجـه الخصوص . ظلّ السفير عمر عديل رئيساً نشــطاً لمجموعة السّفراء/ المنــدوبين الدائميــن الأفارقة، وكان أول من طالب الأمم المتحدة، وبإسم مجموعة السفراء الأفارقة ، للتدخّل لإطلاق سـراح المناضل الرّاحل نيلسن مانديلا الذي اعتقلته سلطات النظـام العنصري آنذاك في جنوب أفـريقيا، بعد عــودته من جولة خارجيــة ، كان من بيـنها –ويا للمفارقة – زيارة للعاصمة السودانية التي عاد منها بجـواز سـفرٍ دبلوماســي منحته له حكـومة السودان.
ترأس السفير عـديل اللجنة السياسية الأولى في دورة الجمعــية العــامة لعام 1961م ، وكان لـه الصوت الجهــيـر المُعبّـر عن المطـالبـة بتصـفـية الاسـتعمار، كمـا كان لهُ دورٌ مشــهـود في مسـاندة الـثـورة الجــزائرية للخلاص من الاســتعمار الفرنسي، ولنيل حقها في الاستقلال الكامل .
(2) بلغتْ نجاحات عـديل أوجـها خـلال أزمة الكونغو التي تردّد المستعمر البلجيكي طويلا في منحها حق تقـرير المصير والاسـتقلال لذلـك البـلـد الغـني بالمعـادن الثمـيـنة، مثل الـمـاس واليورانيوم . لقد تصدّى السـفير عـديل في خطابٍ ألقاه في الجلسة الخاصة لمجلس الأمـــن ، مطالـبـاً بتصميم أكيد، بالتحـقـيـق في حـادثة اغتـيــال باتريس لوممبـا رئيــس وزراء الكونغـــو. لقد كان مؤسفاً التعتيم على حقــائق الجــريمة ، وقد ظهرت حقائقها بعـد ســنوات وظهــر أنّ وراءهـا أصابع المخابـرات الأمريكية والبريطانية والبلجيكية . تلك أفاعيل المخابرات في حقبة الحرب الباردة.
ولتميّـز أداء السـفير عـمر عـديل في قضايا القارة الأفـريقـية، خاصة في ملـف تصفـية الاستعمار ، فـقـد اختاره الأمين العام للمنظمـة الأممـية ، ليكون مستشاراً من ضمـن آخـرين . اعتمده الرّاحل داغ همرشولد، مستشاراً له غير رسميّ ، لكنه صار الناصح الأول للأمين العام في ذلك التجمّع غير الرسمي الذي عرف في أوســاط أمـانة الأمم المتــحدة بإسم “نادي الكونغو” . بعد إخفاقات ممثل الأمين العام للأمم المتحدة السفير الهـندي “دايال”، طلـب الأمين العام همرشولد موافقة الحكومة السودانية ليتم تعيـيـن الســفير عـديل ممثـلا للأمـم المتحـدة في الكونغو . إلا أن ما تعرضت له الكتـيـبة السودانية التي شـــاركت ضمن القـوات الدولـيـة في الكونغو من اعـتداءٍ سافر عليها من قوات كنغولية، ولم تقم المنظمة بدورها في الدفاع عن تلك القوات أو إدانة ذلك الاعتداء، أدّتْ إلى رفض الحكومة الســودانية طلب الأمم المتحدة .
(3) بعد إغتيال رئيس وزراء الكونغو بأشهر، جرى إسقاط طائرة الأمين العام للأمم المتحدة في الأحراش الحدودية، وهو في رحلته من زامبيا إلى الكونغو في سبتمبر من عام 1961م، وفـق خطة تآمرية خبيثة ، تم التخلص عبرها من المسئول الدولي، وأســدل الســتار على قصته ، وظلّ سـرّ اسقاط تلك الطائرة مجهولاً لقرابة الأربعين عاما . أبانت وثائق أفرج عنها في جنوب أفريقيا، بعد أربعين عاماً من وقوع حادثة اغتيال “همرشولد”، أن أجهزة مخابرات عضوين من أعضاء مجلس الأمن ، دائمي العضوية، كانت متورطة في خطة التخلص من الأمين العام للأمم المتحدة عام 1961م . وأشير لك هنا أن مخابرات كل من بريطانيا والولايات المتحدة لهما أصــابع وألسـنة ولغتْ في الجريمة.
في البحث عن أمين عام جديد يشغل منصب الأمين العام في عام 1961م، كتبت صحيفة الـ”هيرالد تريبيون” بتاريخ 23 سبتمبر 1962م ، مقالا تحليلياً حول المرشّحين لتولي منصب الأمين العام للأمم المتحدة ، بعد اغتيال “داغ همرشــولد”. من بين المتنافسـين الثـلاثـة، وهـم مندوب بورمــا “يو ثانـت” والباكسـتاني “ظفـر اللـه خان” والهـنـدي “نارا سـيمهان “، ولكــن أشـــار مقال الصحيفة إلى (ما يـراه دبلوماسيون ذوو نظـرٍ بعـيد، أن لا تغـيب العـيــن عـن المنــدوب السـوداني عمـر عديل، وهو قادم جديد وبقوّة في الساحة الدولية، ودبلوماسـي ذكي قاد اللجنة السياسية ، وهي اللجـنة الأولى والأهم من لجان الجمعـية العـامة للأمــم المتحـــدة، في دورتـها لعام 1962م، وأدارها بحنكةٍ واقتـدار).
(4) إلا أنهُ في ذلـك الـوقـت المبكّر (1962م)، لم يحن لأفريقـيـا دورها في تقـلّـد أحــد أبنـائها ذلـك المنصب المرموق، وفق تقلـيـدِ تداولِـهِ بيـنَ قـارات العالــم. لقد كان الســـفير السـوداني عـمر عـديل ، من الذين اقـتربوا من التنافـس لتولي المنصب، لكن تناهَى إلى علـمي من بعض معاصري السفير عديل في تلكم الفترة ، أنه استـشـعـر ما تبطنه بعض جهــات غربيــة، خاصة مـن ممثليها في مجلـس الأمـن وقد أثار حفيظتهم علـوّ صوته في الجمعـية العامة في قضايا تصفية الاستعمار وأزمة الكونغو ودعم الثورة الجزائرية وقضايا نزع السلاح. وذلك أمرٌ متوقــــع مـن مخابرات الدول الغربية لما لها من أيـدي نافـذة إبّان حقبة الحرب الباردة، في تحديد وجهات السياسات الخارجية للبلدان الغربية، تجاه دول العالم الثالث.
أدرك المندوب السـوداني السفير عمر عديل، أنه لن يجد فرصة للتنافس لمنصب قيـادة الأمـم المتحــدة ، فكانت مساندته للمندوب البورمي “يو ثانـت ” قوية وحاسمة ، أدتْ -ضمن مع عوامل أخرى- لينال الأخير منصب الأمين العام للمنظمة الدولية.
لو قُـدّر للمنــدوب السـوداني أن ينال ذلـك المنصب، وهو بالفعل قد اقتـرب منه آنذاك، لشـكّل مكســبا للقارة الأفريقية ، إلا أن تولِّـي مواطن أفريقي لذلـك المنصب المرموق، لم يتحقق إلا بعد نحو ثلاثين عامـا من بروز إســم السـفير السوداني عمر عديل للترشّـح للمنصب عام 1962م.
(5) تمضي السنوات ويكتسب السّـفير عديل خبرات وتجارب في عمله مندوبا لبلاده في الأمم المتحدة ، جعلت منه نجـمـاً مميّـزاً في الأمـم المتحدة، على النحو الذي أشار إليه السفير عـدنان الباجه جي مندوب العراق في ذلـك الزمان .
لكن لمّا حانتْ الفرصةُ للـقـارّةِ الأفـريقـية لأنْ تنال حظّـها في رئاسـة الجمعـية العامــة، فإنّ تدرّجَ السُّـفيرِ/المندوب الدائم السوداني عمر عديل، والذي انتخب نائبــاً لرئيس الجمعـية العامة في دورتها عـام 1962م، ثمّ رئيسٍاً للجنة السياسية الأولى في الجمعية العامّـة في دورة 1963م ، ثمّ ترشـيحه لرئاسـة الجمعـية العامّـة في دورتها التاســعة عشــرعام 1964م، فقـد كان ذلك تدرّجـاً طبيـعـياً، يؤهِّل صاحـبـه للإرتقـاءِ ليشغل ذلـك المنصب في تلـك الدورة عن جـدارة. كان هـو الأوفـر حظاً للفـوز بالمنصب، وقد نافسـه عليه سفيران منــدوبان لدولتي غـانـا و ليـبـريا، وكان التقليد أن يتوافق منـدوبو المجموعة الأفريقية على مرشح واحد، ولكن لا يسلم الأفارقة أوانذاك، من تحريضٍ يضغط عليهم من قِـبَـل حائكِي الخطط السوداء .
لم يكسب السـفير عـديـل رضـا المؤثرين من بعض أعضاء مجلـس الأمــن، دائمي العضوية ، خاصة ممثل الولايات المتحدة. فأحسّ أن ترشيحه لرئاسة الجمعية العامة لن يمرّ بيســر، لكنه لم يدر بخلـده أنّ الخـطط السّـوداء، يمكن أن تصل إلى مستوىً يسـتهدف اغتـيال شخصيته اغتيالاً معـنـوياً .
(6) لعبتْ المخابرات الأمريكية دورها لقطع الطـريق على ترشــيح الســفير عـديل ليـرأس الجمعية العامة في دورتها الراتبة عام 1964م . إذ عملت المخابرات الأمريكية بما عرف عنها من أســاليب شريرة ومكائد ، لاغتيال شخصية السـفير عـديل، فاختلـقـوا قضية أخلاقية زعموا أنه تورّط فيها. لكن مع سُـخف الاتهـام ، واغلاق المحكمة الأمريكية لملف القضية ، إلا أن التآمر لم ينته، بل سعى لأن تصل إشانة سمعة السفير عـديـل ، بأسـلوب خفي لقـيادة وزارة الخارجية الســودانية. من مساويء الصدف أن يتم اغتيال الرئيس الأمريكي جـون كينـيدي في أكتوبر ذلك العام قبل شهر من موعد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، فتأجلت إلى ديسمبر ذلك العام، ممّا أتاح المزيد من الوقت لتمرير الخطة السوداء : مؤامرة إقصــاء السفير عديل وإلغاء ترشيحه لمنصب رئاســة الجمعـية العـامـة .
وكما هو متوقع للخطة السوداء ، فقـد تواصلت حياكة المؤامرة المخابراتية الأجنبية لتكتمل فصولها بأيـدي الســودانيين مـن زملاء السـفير عـديـل في قيادة وزارة الخارجية السـودانية فينهـون مهمـته ويطردونه من منصبه منـدوبا للسودان في ديسمبر من عام 1964م بدمٍ بارد، وهـو قاب أسبوعين أو أدنى، من أن يكون أوّل أفريقي يتولى رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحـــدة في تاريخـها . أعـمَتْ مشاعر الحسد عيون زملائه، فما التفـتـوا لخسـارة تمثلت في ضياع سانحة أتاحها التاريخ للسودان.
وهكذا اكتملت فصول الخطة السوداء فـتمّ إقصاء السفير المقـتدر عـمر عديل بقـرار من حكومة بلاده، وسـط دهشـة قيادات الأمــم المتحـــدة، وأولهم أميـنـها العــام “يــو ثانـت” الــذي أدرك أن ظلـما لحـق بالســفير عمـر عـديل، فما كان له إلا أن يرد الجميـل لسـفيـر كَسَـرتْ بلاده أجنحـتــه، فقـرّر على الـفـور تعييـنه ممثـلاً له في مهـمّـة دبلوماسية تخصّ الأمانة العـامـة للأمم المتحــدة، لكن كانت حسرة الأمانة العامة لا توصف لأفول نجم من نجوم الأمم المتحدة كان المستقبل أمامه ممتـداً وهو في الأربعيـن من العمـر. .
(6) حفـلتْ حقـبة الحرب الباردة في العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، بمشاهد لخطط سـوداء جهنمية ، ومواجهات بين قطبيـن تقاسما النفوذ في العالم. بين موسكو وواشنطن. ظلـتْ مخابرات كلا العاصمتيـن تتصارعان ، في تنافـسٍ شـرسٍ على موارد العالـم الثالث، ويتبـادلان الضربات في العـديد من المواقع بلا هـوادة ، لعلّ أكثـرها بروزاً ما حــدث في حرب كوريا وفي حادثة خليج الخنازير وفي حرب فيتنام، ثم في الكونغو والمعادن المكنوزة في باطن أرضه. لا أورد لك الأمثلة جميعها وأكثرها مرعب.
أمّا السودان فلن يبرأ بيسـرٍ من علـلٍ تسبّبتْ فيها خطط الأشرار السوداء .
هـذه الحرب التي تدور رحاها في أرض السودان ، أهـي من صنع أهـله ؟ أم هي بعض ما يحيـك الغرباء ؟
بلــدٌ كانت كتائب جـنـده تشارك مع قوات أممية أرسلتها الأمم المتحدة في أوّل مهـمة في تاريخها إلى دولة هي الكونغو في سـتينات القرن الماضي ، فإذا بالمنظمة الأممية ترسل بعد خمسين عاماً ، قواتٍ دولـية هجينة ، إلى أكبر إقليم في السـودان هو دارفــور ، تجاوز عــددها العشرين ألف ، بغرض وقف القـتال واحتواء ما يشبه إبادة جماعية تتولاها حكومته .
بلــدٌ كان مِن أغنى بلــدان القارة الأفريقية بالموارد البكر ، وأغناها بالثروة الحيوانية والـنفط والذهـب، فإذا هو في ســنوات الألفـية الثالثة، يتذيل قائمة الدول الأفقر في العـالم . بلــدٌ كان من بيــن ســفرائه، من كـاد أن يتـبـوأ قـيادة المنظـمة الأمميـة في سنوات الستينات من القرن الماضي، فإذا هو الآن منبـوذ بيـن أقرانه الأفـارقـة ومن المجتمع الدولي، ولا يجد مقعـداً في المنظمة الأفريقية ، وقد كان من يوماً من مؤسسيها وكُـتّـاب ميـثـاقـها .
بـلـدٌ يترنّح ذبيحـاً في دم بنـيهِ ، والمتفـرّجون على الـذّبـح مِن أطــراف المجتـمع الدولـي كثر ، وفيهم -ويا للأسـى- بعض أهله وعارفـو أفضاله ، فأنكروها وعـنـد السودانيـيــن مثـل فصيح بعامـيتـهـم : “دار أبيوك إنْ خربتْ شِــيْـل منـها شــليّة” … أي خُـذ قدر ما تستطيع ممّا ترك أبيك بعد هلاكه . فمن وضع خطة سـوداء للســودان ؟
يا قـراء العربي الجديد .. أبكوا معي على بلـدي الحبيب .
٨ سبتمبر 2023 صحيفة “العربي الجديد” ، لندن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى