الأعمدة

حيث أجد ذاتي في عيدها .

صورة المدينة التي لم أرها حقيقة ..كانت تشغل مساحة خيال الصبا الغض ..فأرسم لها مشهداً بريشة الحلم..وأنا أصعد فوق ظهر الترعة القريبة من قريتنا ..وأطلق للشغف عناناً يسبق النظر الى تلك الثريات التي ترسل نورها عبر المسافات ..فتسري رعشة الوله دافقة في حنايا الوجدان .. وتثير شيئاً من الحزن على فراق مكان لم التقيه ..ولكنني ويا للعجب أحن اليه .
وحينما ابتلعتني شوارعها الكبيرة في بواكير الشباب رغم ما فيها من أضواء لطالما سبحت فيها بأذرع الإفتتان ..إلا سرعان ما اصابني منها الملل فأنتابني شعور الطفل الذي حاز على مراده من أصناف اللعب والدُمى .. فدفعها بعيداً عنه أوحطمها دونما سبب واضح !
وكان إنطلاق أجنحة السفر الى عالم أرحب في حداثته و معارفه وسحنات أهله ..وتقطعت فيه سحابات ندى العمر خلف رياح الزمن ونثرت رذاذ الخوف من المجهول على ماتبقى من تربة الجسدوجذورالروح ..فقفلت حاملاً حقائب الخواء على الظهر التي أنهكته المسيرة الطويلة ..وعدت أبحث عن ذاتي تلك القديمة ..علني أجد لها أثراً في عصر لم يعدهو الذي تركتها فيه ..وغدوت ألهث متأملاً وباحثاً في قسمات المدينة وعن ملامحها المنحوتة على جدار الذاكرة وقدأصبحت قرية مترهلة الأعطاف المتنافرة فوق بعضها..وهي التي بدورها ودوران شموس الأيام الفيتها نسيت ملامحي ..ولم أكن قدنسيت اماكنها ولكنها شاخت في غيابي ..وتنكرت لي في غمرة خرفها المبكر وأنا أهيم مستجدياً التحية من خلف التجهم في الوجوه التي كانت سمة البسمة قديما شعاراً لمحياها ..!
وها أنا أخرج راكضاً الى تخوم البنادر في توقٍ عكسي وأصعد الى قمة ما تبقى من تلالها الطرفية التي دكت معالم أكثرها أقدام التغول والتوسع غيرالحضري وقد قضمت ما طاب لها من ترابها ..فأجدنفسي أنظرالى مكاني القديم في قريتي الوادعة ..وأهفو اليها ولو شابها شيء من التشبه بالتمدن الخافت ونمط الحياة السريع الإيقاع .. حيث باتت تشتري الحليب ..وهي التي كانت توزعه بدون مقابل على الجيران ..!
ورغم كل ذلك الأسى الذي إعتصر النفس بأكف الزمان التي لم تعد حنينة الملمس كما كانت تشدنا اليها برفق ٍفي غابر الأيام ..!
فأين ياترى أرى صورتي القديمة إلا في عيون أمي وأنا أجدها كما هي لم تتغير نظرتها حيالي ..فتقول لي أنت طفلي هوهوذلك الذي أخاف عليه مثلما كنت في شقاوة الصبا ..فلن تتبدل في نظري وإن تظاهرت بوقار الجد ..فأنت في عمر أحفادك عندي وستظل..!
فلم أجد من القوة التي تجعلني أقاوم الرغبة في الإرتماء على حضنها الذي يتفجرمنه حنان كل الأزمنة التي حرمتني من أنفاسها ..وهاقد عادت الى دواخلي كل أحاسيس طفولتي وأنا أجثوعلى قدمي ست الحبايب في عيدها ..فخانتني الكلمات عن التعبير عما يجيش بالخاطر في تلك اللحظة حيث تولت الدمعات الرقرقة دون أن تنسكب عبر مآقي المكابرة التي وقفت حاجزاً كسياج النار تصد نزولها إمتصاصا ممضاً..وليته أبكاني لهيبها لترتاح بواقي تلك الدمعات منعتقةً عن سجنها الحارق في محاجري وأراحتنى بالمقابل عنها.. وليتني كنت أستطيع البكاء !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى