الأعمدة

حتى نفتح كوة للضوء في آخر النفق (٤) علينا أن نتخلص في السودان من الكراهية والقبلية والتفرقة العنصرية

بقلم/ بابكر عيسى أحمد

كنت قد تحدثت في الحلقة السابقة عن واقعية السياسي وعقلانية الزعيم وأنا أتحدث عن زعيم الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا ويليم دي كليرك الذي شكل مع الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا طوق نجاه لإنتشال ذلك البلد العريق الذي عانى طويلاً وكثيراً من الكراهية والعنصرية والقبلية والتفرقة بين الجنسيات والأعراق … ويدهشني -كما سبق أن أشرت أكثر من مرة إلى ذلك التطابق المدهش الذي يعيشه السودان مع معاناة جنوب أفريقيا والتي تطاولت حتى برز فجر الحرية وبدأت حياة جديدة في وطن يتمتع بكل شيء من الثروات والإمكانيات والقدرات البشرية المتفردة.
كان دي كليرك يدفع بالأقلية البيضاء لمواجهة لحظة الحقيقة والخيارات الصعبة، فقام بالدعوة إلى استفتاء في مارس ١٩٩٠ طرح خلاله سؤالاً محدداً على الأقلية البيضاء وإجابته محددة بنعم أو لا … “هل تؤيد استمرار النهج الإصلاحي الذي بدأه الرئيس في الثاني من فبراير عام ١٩٩٠ والرامي إلى صياغة دستور جديد من خلال المفاوضات؟”.
واقتربت لحظة الحقيقة، وتجلت صعوبة الإختيار “نعم” تعني التجرد من الوضع المتميز للعنصريين البيض و “لا” تعني المواجهة والعودة إلى العزلة الدولية والمقاطعة الإقتصادية.
وأخاف تهديد دي كليرك بالإستقالة انصار الإصلاح أن يكون مصير الرجل الذي يعتمدون عليه مثل مصير الجنرال شارل ديغول في فرنسا الذي اعتزل الحياة السياسية بعد استفتاء رفضه الفرنسيون، أو مصير ميخائيل غورباتشوف الذي التهمته حيا الإصلاحات التي أطلقها في الإتحاد السوفيتي تحت شعار “البيروسترويكا”.
قبل أن تجيب الأقلية البيضاء بنعم أو لا كانت دائرة الصراع قد اتسعت في الطرقات المسكونة بالغضب والعنف والجريمة … واتسعت لتشمل الكل البيض ضد البيض، والسود ضد السود وتضاعفت الهموم في جنوب أفريقيا عندما بات الجفاف يهدد المحاصيل الزراعية، واضرابات عمال المناجم تهدد الدخل القومي والكساد الإقتصادي يطفئ آخر شموع الأمل ويحكم على الأسواق بالركود.
وتزامن كل هذا مع ازدياد موجة العنف بشقيها الجنائي والسياسي واتساع رقعة الإقتتال العشائري بين السود في المستوطنات والضواحي والمعازل العنصرية.
وظهرت نتيجة الإستفتاء ودي كليرك يحتفل بعيد ميلاده السادس والخمسين … ووافق أكثر من ثلاثة ملايين من الأقلية البيضاء على برنامج الرئيس وإصلاحاته للقضاء على التفرقه العنصرية.
عندما كان أصدقاؤه يهنئونه بعيد ميلاده كان دائم القول “هذا هو يوم الميلاد الحقيقي لأمة جنوب أفريقيا”
وفي مسعاه لدك آخر حصون العنصرية في عالم القرن العشرين يكون ويليم دي كليرك قد دخل التاريخ من أوسع أبوابه، دي كليرك المحامي لا يترافع أبداً في قضية خاسرة.
وبقراءة تاريخ الرجل الذي ولد في مقاطعة الترانسفال نكتشف أنه يمثل الإعتدال في طائفة شديدة الغلو في أفكارها وممارساتها، وأنه منذ انضمامه للحزب الوطني الحاكم عام ١٩٤٨ لعب دوراً جوهرياً في مواجهة التطرف حتى دفع بغلاة المتشددين إلى الإنفصال عن الحزب الأم وتكوين حزب آخر بإسم حزب المحافظين على العنصرية.
وذات مساء في جوهانسبرج وفي بهو الفندق ذي الثلاثين طابقاً دار حديث ساخن شارك فيه أكثر من صحفي حول شخصية دي كليرك ودوره.
وقد اتفقت الآراء في البداية على أن دي كليرك يتمتع بالمصداقية وأنه انسان يمكن الوثوق به، ولكن البعض يرى فيه بهلواناً ماكراً نجح في سرقة الأضواء وأنه جزء من ماضيه ولم يكن أبداً رائد اصلاح أخلاقي عظيم بل مجرد موظف ترقى وترعرع في أحضان النظام العنصري.
واعترض البعض أيضاً على صفة القداسة التي تحاول صحافة جنوب أفريقيا صبغها على الرجل ويقولون أن دي كليرك لا يعدو كونه سياسياً مغرماً بالسلطة، وأنه يمثل هؤلاء الرجال المنظمين جيداً والمتحدين سياسياً والمحترفين للعمل العام لأكثر من نصف قرن في دولة ظلت تمارس التفرقة العنصرية في أبشع صورها.
ومن الأشياء الملفتة للنظر أنني حاولت معرفة السرعة التي يمكن أن تسير بها الإصلاحات ولم أجد من كل الذين إلتقيت بهم من السود والبيض إلا إجابات غامضة غير واثقة، ولكنهم جميعهم قلقون من أن القوانين العنصرية رغم سقوطها المعلن مازالت جاثمة على صدور الكثيرين وأن مجرد الإختلاط ليس كافياً بل لابد أن تتجسد القوانين على صعيد الواقع وخاصة أن نظام تقسيم الأراضي وتولي المناصب القيادية في الدولة التي تحتكرها الأقلية البيضاء مازال قائماً.
وإن كان دي كليرك يراهن على الخلاص من العقوبات الإقتصادية الدولية لخلق مناخ اقتصادي يدعم جهوده السياسية فإن المناهضين للرجل يصفونه بأنه “مراوغ ومتواطئ وماكر ومخادع ومستغل للفرص” ويضربون المثل على ذلك بممارسات حركة “انكاثا” الحرية التي يتزعمها مانجوسوثو بوتيليزي وتحظى برعاية الدولة وتقف وراء أغلب جرائم القتل..
وحذرت صحف جنوب أفريقيا من أن الوضع في حالة غليان ولكن قوى الأمن والوزراء يشعرون بالرضا التام وأن استمرار هذا الوضع سيسمح بتعميم الفوضى واحداث العنف في كل مكان.
يقول دي كليرك “أن البلاد في حاجة إلى عاطفة بناءة لتجاوز مخاطر الحرب الأهلية” ويتساءل مناهضوه “هل تكفي العاطفة في ظل لعبة النظام المزدوجة للخروج من النفق المظلم”.
إلى ذلك يبقى الوضع المحتقن في جنوب أفريقيا في تلك السنوات شبيهاً بالوضع الذي يعيشه السودان حالياً، وهو بحاجة إلى تنفيس من خلال المبادرات الجسورة والشجاعة للإعتراف بالأخطاء والإعتذار عنها، وهذا ما نأمله في جولة المفاوضات القادمة في العاشر من مايو ٢٠٢٢ لتوجد مخرجاً للبلاد من حالة التوهان وأن ينتقل السودان الوطن إلى براحات الحرية والسلام والعدالة وأن تتوحد القوى الثورية وتكتب صفحة جديدة في تاريخ بلاد ظلت تنزف تحت الأنظمة العسكرية منذ استقلال السودان في العام ١٩٥٦ وأن تفتح كوه للضوء ليتحقق الميلاد الجديد الذي نحلم به جميعاً.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى