الأعمدة

لسنا بخير!

نعم لسنا بخير، لأن الذي يجري بات لا ينتج سوى المزيد والمزيد بؤساً وألماً وشقاءً..
قتال يدفع ثمنه أناس من كل الفئات، بعضهم يرتدون لامة الحرب بعقيدة أو دونها، وبعضهم ينحاز لهذا أو ذاك بقناعة عقلية أو بعاطفة مضللة أو بمصالح يرتجيها، ومنهم من لا يعرف لماذا يتقاتل القوم.. وآخرون يعرفون لكن لا يعتبرون أنفسهم طرفاً فيما يدور.
كلهم يدفعون الآن ثمن ما يجري. تسيل دماء الشباب الذين كانوا من قبل سواعد مرتجاة للبناء، وتتهاطل شواظ النار على الآمنين في مهاجعهم فتجعلهم أشلاء، وتتهدم الصروح فوق الرؤوس على نهج شمشون لتصبح ديار الأمان كالصريم.
يتصاعد أنين الوجع من كل الأنحاء، وتثكل الأمهات بغياب فلذات الأكباد، ويتيتم الصغار ممن كانوا بحاجة لدفء النشأة في أكناف آبائهم.
تضرب مآسي الشتات أوتادها في الفيافي، ويصبح أعزاء القوم أذلاء، وتتوارى شمس العزة خلف عتمة المرارات، وتتفرق الأسر الكريمة المتماسكة لتصبح شظايا هنا وهناك.
وسط كل ذلك تعشعش الإفرازات الكريهة التي تنتجها الحروب، وتضرب الكراهية أوتادها في المشهد، لتحيله إلى وسط يصعب شفاء أمراضه، وتتحول بيئة التسامح التي زانت المجتمع عبر العقود والقرون، إلى بيئة تتوالد فيها بؤر الأحقاد والرفض الكامل للآخر، فالهوية هي الهوة، والجهوية هي من يحدد أحقيتك بالحياة والوجود.
لسنا معنيين الآن بمن أوصلنا لهذا الدرك، فالجميع مغموسون في المستنقع، سواء بالقتال، أو بالتنادي إليه، أو بالمواقف المتخشبة التي لم تعرف المرونة ولم تقرأ الأفق المليء بالأخطار.
لا تنعدم الومضات رغم الظلام الدامس، فلدينا آذان تسمع، وأعين ترى، وعقول تزن الأمور. لم يعد أمامنا سوى الانحياز المدعوم بإرادة فولاذية لحفظ الوطن.
ليس من طريق سوى أن ندوس جميعنا على جراحنا، أن نرفع فضيلة التسامح لتكون العنوان الأكبر، أن نتخلى عن شهوة الانتقام ورد الصاع صاعين، وأن نكف عن خداع أنفسنا بالنصر وأطرافنا مبتورة وأعيننا مفقوءة.
بذلك نحقق معيار القوة الحقيقي، وندرك معيار الانتصار على النفس قبل الانتصار على الغرماء.
أما بغير ذلك، فلن تأمن الأنفس والقلوب، ما دامت المطحنة تدور وفي جوفها الوطن.
أوقفوها حتى نكتفي بما خسرنا دون أن نزيد عليه.
أوقفوها ليعود الوطن واقفاً بعد سقوطه.
أوقفوها.. حتى لا تظل الحقيقة المريرة بلا مكياج أو رتوش هي: (لسنا بخير)!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى