الأعمدة

مخدرات الفضائيات !

 

يدور الإعلام المصري على قاعدة التوقيت في خدمة التكتيك ..لكن قبل التوضيح يتحتم إلقاء الضوء على البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يدور في فلكها الإعلام:
1ـ مأزق أخلاقي وسياسي وعسكري للدولة أمام ما يحدث من إجرام وإهانة ومذلة في غزة والضفة ، ما أدى إلى احتقان شعبي يتصاعد لا أحد يستطيع التنبوء بعواقبه.
2ـ ديون خارجية تهدد الاستقلال الوطني (درس التاريخ الذي لا نريد استيعابه) .
3ـ أزمة الاقتصادية طاحنة ، وتضخم غير مسبوق أدى إلى ارتفاع جنوني في الأسعار ، إلى درجة دفعت الحكومة إلى رفع سعر الخبز المدعوم من خمسة قروش إلى 20 قرشا (40% زيادة) متجاهلة التداعيات التاريخية لرفع سعر رغيف الخبز العام 1977 من خمسة مليمات للرغيف الواحد المدعوم إلى عشرة مليمات (قرش صاغ) ما أدى إلى اندلاع مظاهرات عارمة في البلاد ، أجبرت الرئيس الراحل أنور السادات على التراجع عن قرار الزيادة.. لغم اجتماعي يصعب تفكيكه ، ونخشى تفجيره، في ظل سياسة الصوت الواحد.
4ـ إنفراد الاستثمارات الخاصة بالمواطن المصري تحت أعين الدولة والأجهزة الرقابية الرسمية والأهلية (جهاز حماية المستهلك كمثال) ، ما أدى إلى قفزات جنونية في أسعار الخدمات وعلى رأسها الصحة والتعليم والإسكان ، فضلا عن الاحتياجات الأساسية للمواطنين كقطع غيار السيارات والأجهزة الكهربائية .. إنفراد يشبه الافتراس دون تدخل حكومي سوى الشجب والوعيد لجشع التجار ، ولا رادع للغش التجاري والخدمى.
5ـ إهانة القضاء ،بتجاهل تنفيذ أحكامه وقلراراته الصادرة لصالح الأفراد سواء ضد هيئات عمومية أو شركات أو مواطنين ، وهناك آلاف الأحكام القضائية مضى على صدورها من عشرة إلى خمسة عشر عاما لا تنفذ ، ما ورط المجتمع في ظواهر سلبية تنهش في المنظومة الأخلاقية والأعراف المتوارثة وتصب الزيت على نار الاحتقان الشعبي الممتد من كرة القدم إلى السياسة.
6ـ إنسداد الأفق السياسي إلى مستوى تبدو فيه مصر، ولأول مرة في تاريخها الحديث منذ بدايات القرن التاسع عشر (محمد على) بلا نخب سياسية وثقافية وفنية ورياضية على سطح الحياة العامة في الوطن، ما أحدث فراغا وتأكلا في الوعي الجمعي ، فتح الباب أمام “الهواميش” للتقدم وملء الفراغ بالدف والرقص والطبل، ما دفع الشرفاء من النخبة في مختلف الأنشطة الإنسانية إلى الانزواء والابتعاد عن المجال العام للأمة، الأمر الذي يضرب الثوابت الراسخة في الوعي الجمعي المصري ، أقلها مساندة المظلومين والمقهورين على خلفية “الإنسانية” التي تجذرت داخل الوجدان الشعبي،وعلى قاعدة “دين التوحيد” التي أمن بها المصريون عبر الزمان ، وما أرسته من قيم اجتماعية سامية تحض على الوقوف إلى جانب الحق والتصدي للباطل ولو بالقلب.
************
داخل هذا السياق العام يدورالإعلام المصري ، تأتيه الأوامر بصنع اشتباكات زائفة بين لاعبي ومشجعى الكرة ، وبفنانين يسيئوا للمصريين قبل أن يسيئوا لأنفسهم ، وبرامج دينية كثيرة تشبه بعضها في الشكل والمضمون وتثير قضايا مثارة منذ ما يزيد عن الف عام ، ولا يجروء مقدميها أو ضيوفها على تذكيرنا بالحديث النبوي الشريف: “أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ” .. والسلطان المقصود ، كل من له سلطة ونفوذ في إدارة حوائج الناس مهما علت أو تدنت مكانته.
من هنا يأتي التوقيت في خدمة التكتيك :
ـ كلما ازداد الاحتقان الشعبي بسبب غزة أو غلاء الأسعار وتدنى الخدمات ، يتدخل الإعلام والفضائيات لصنع حالة من حالات “الاشتباك الرخيص” بين الأفراد والمؤسسات ( تكتيك)، لتشتيت انتباه الناس عن القضايا الحقيقية التي تؤثر على معيشتهم وحياتهم (الاستراتيجية).. والثابت أن التلاسن الرخيص والتحفيل الهابط بين أهل كرة القدم يأتي في أعقاب أحداث كبرى تنذر بانفجار شعبي ، ولأن كرة القدم لها من الجماهيرية والشعبية ما يسمح لشخصية كروية مثل محمود الخطيب رئيس النادي الأهلي بالترشح لرئاسة الجمهورية ، فإنها ـ لشعبيتهاـ أفضل إلهاء ممكن للجماهير المحتقنة والغاضبة ..و كرة القدم هي كأس النسيان ، ويكفى للتدليل أن النجم شيكابالا كابتن الزمالك حصد لقاءه بإحدى القنوات ما يقترب من 150 مليون مشاهدة ، كما تشير الشركات المتخصصة في قياسات نسب المشاهدة .
لذلك ليس مستغربا أن تسمح قنوات فضائية لعاطل وجاهل ومزور لم ينل غالبيتهم شهادة تعليمية أكثر من الإعدادية أو “دبلون” على الأكثر بتقديم برامج هدفها الأول والأخير إلهاء الشعب عن قضايا الحاضر والمستقبل.. برامج كرة القدم في مصر كالمخدرات ، تنسيك الهموم كما يعتقد متعاطوها.
أحمد عادل هاشم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى